من «الحرم المكي» إلى مسجد «الإمام الصادق».. نحو ذاكرة بلا ثقوب

قبل ثلاث ليالٍ مضت، كانت الذكرى الرابعة والعشرين لتفجيرات مكة الإرهابية من قبل «حزب الله» الكويتي في عام 1989، والتي راح ضحيتها 26 شهيدا ومصابا، تلك الحادثة التي أحالت الترانيم المقدسة المطمئنة لحجاج بيت الله في مكة إلى ابتهالات الخائفين. كما تترافق الذكرى مع وفاة المعمم الشيعي محمد باقر المهري قبل أيام من الذكرى، وهو وكيل خامنئي وبعض المرجعيات الشيعية في دولة الكويت، والمتهم باعترافات المنفذين بتوليه التخطيط للعملية واختيار أفراد الخلية الإرهابية، وفقا لتحقيقات الأمن السعودي.
يأتي استحضار هذه الذكرى من أجل ذاكرة بلا ثقوب في فهم الظاهرة الإرهابية التي عمت المنطقة على أيدي الجماعات الإرهابية من كلا المتطرفين في الطائفتين، الشيعية والسنية. فما قامت به «أحزاب الله» في المنطقة من حرائق لم تستثن حتى الحرم المكي، هو ذاته ما يقوم به «داعش» بانتهاكه حرمة المعابد الدينية والمساجد الخاصة بأبناء الطائفة الشيعية. ولكن لعل الفارق الأبرز بين التجربتين أن أذرع الإسلام السياسي الشيعي المسلحة مدعومة كليا وعلانية من قبل صناع القرار في طهران، بينما عواصم دول الاعتدال في المنطقة - وفي مقدمتها الرياض - تقود حربا لا مواربة فيها على «الإسلام السياسي» المسلح بشقيه، وتضع «داعش» وتوابعه، و«حزب الله» وتوابعه، في سلة واحدة.
في الصراع السياسي والحرب الباردة التي نتجت عن الصراع السياسي في منطقة الشرق الأوسط في سياقاته التاريخية المعروفة، لم تتوان إيران الثورة عن استخدام الأقليات الشيعية العربية كأحد أسلحتها في إدارة الحرب من جانبها.
لقد اعتمدت إيران على نُخَب مجندة لكي تعمل كرأس حربة لها في توجيه الرأي والمزاج السياسي العام للدفاع عن مواقفها ومواقف الفصائل المحسوبة عليها علنا في الأوساط الشيعية العربية. وانتظمت هذه النخب تحت مظلة عريضة عُرِفَتْ باسم «خط الإمام» أو «السائرون على نهج الإمام»؛ وتوجد تحت هذا العنوان العريض عناوين فرعية لفصائل أكثر نخبوية من حيث التجنيد والتدريب. وعملت الفصائل الأكثر تدريبا والأدق تنظيما تحت مسمى «حزب الله» بتفرّعات جغرافية مثل «حزب الله الحجاز» و«حزب الله الكويت».
«أتذكر حادثة شهدتها بنفسي أواخر عام 1979 وفيها دلالات لا تزال سارية المفعول حتى وقتنا الراهن. حذّر أحد خطباء المنبر الحسيني في منطقة القطيف مستمعيه من الاستجابة لدعوة الخميني إلى تصدير ثورته الإسلامية. ونبه هذا الخطيب مستمعيه إلى أن الخميني ورفاقه يقودون دولة لها مصالحها التي قد تتعارض مع مصالح الدولة التي ينتسبون إليها، والخطاب الموجه لمنتسبي المذهب الشيعي مجرد رافعة سياسية تستخدمها إيران للضغط على جاراتها بتهديد أمنها واستقرارها»، كما يقول الكاتب السعودي كامل الخطي في حديثه لـ«الشرق الأوسط».
الخطي، الذي هو ابن واحد من أهم مرجعيات الشيعة الدينية، الفقيه عبد الحميد الخطي، يزيد في مداخلته: «هذا الخطيب المشار إليه هنا، كان أحد وجهاء مدينته، وكان يمتاز بالشهامة والنخوة، وصرف من عمره شطرا غير يسير في السعي لقضاء حاجات الناس، وحل مشاكلهم، وكان من المثقفين العروبيين التقليديين البارزين. تعرض هذا الخطيب إلى نبذ اجتماعي بعد قوله رأيه في الخمينية ودعوتها إلى تصدير الثورة، وكانت الإشاعة هي السلاح الذي استخدم في الاغتيال المعنوي الذي ارتُكِب في حقه؛ فقد انتشرت ضده إشاعة مفادها أنه قال في أحد مجالسه إن حذاء بن غوريون أطهر من لحية الخميني. الإشاعة التي أطلقت وخسفت بحيثية ومكانة هذا الرجل في مجتمعه لم تكن عمل فرديا، وإنما كانت عملا منظما استحضر بوعي شرير رمزية بن غوريون إلى مشهد الصراع لكي يدفع حتى تلك الآلاف التي تقف صامتة حيال الأحداث إلى نبذ الرجل وعزله اجتماعيا؛ فالذي أطلق الإشاعة كان يعي أن لحية الخميني لا تحرك وحدها مشاعر الأغلبية الصامتة وتدفعها للإسهام في الجريمة، فقرنها في مفاضلة مع حذاء بن غوريون، مما استفز مشاعر حتى غير المتعاطفين مع ثورة الخميني، وجندهم كقوة غاشمة من دون وعي».
ولكن ما هو التطور التاريخي الذي طرأ على الأنساق الثقافية لجماعات الإسلام السياسي الشيعي منذ تلك الحقبة إلى اليوم؟ يجيب الكاتب الأكاديمي المصري هاني نسيرة بلمحة من جانبين: «النسق الثقافي لـ(جهاديات الإسلام السياسي الشيعي والسني) لم تتغير، مثل غياب فكرة ومفهوم الوطن عن كليهما: فأدبيات (الجهاديين) السنة والشيعة على السواء لا تؤمن بفكرة الوطن، إنما تؤمن وفقط بمقولة الوطن، هي أممية الاعتقاد وضد فكرة الأوطان والدول الوطنية، لذا يكون المنتمي إليها غير مبال إذا قام بعملية في وطنه أو ضد بني جنسه. هو يحلم بدولته العالمية ونزوعه الأممي. كان الظواهري دائما يسمى الوطنية صنم الوطنية، ويراها طاغوتا، كذلك لم يجعل الخميني تنمية الوطن ورفاه الشعب الإيراني همه، بل كان همه الأول هو تصدير الثورة الإيرانية».
ويضيف نسيرة في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «لكن دعني أنبه هنا إلى شيء، هناك تشابه في الغايات بين الحاكمية والإمامة، فقد استقر الفقه والتراث الشيعي على عدم (الجهاد) في غيبة الإمام وفي عصر الغيبة، ولكن منذ ظهرت ولاية الفقيه على يد الخميني ونظامه صار (الجهاد) وتصدير الثورة عقيدتهم الأولى منذ تأسيس الحرس الثوري عام 1981 بفيالقه الخمسة التي تكلف الاقتصاد الإيراني 200 مليون دولار كل عام على الأقل، لتمويل العمليات في الخارج التي يضطلع بها فيلق القدس تحديدا».
شَكّلَ منتسبو كل إقليم جغرافي القوام الرئيسي لمنظمات «حزب الله» الفرعية، وكُلِّفَت هذه المنظمات الفرعية بالقيام بأعمال لصالح إيران. تراوحت درجة خطورة الأعمال التي نفذتها أفرع «حزب الله» من الضغط على رجال الدين المحليين لمنعهم من اختيار مرجعياتهم الفقهية، ومحاولات إجبارهم على اختيار مرجعيات فقهية مؤمنة بمبدأ ولاية الفقيه بغرض إحكام السيطرة على المجتمعات الشيعية العربية، وتوجيه سلوكها بما يتفق والمصلحة الإيرانية، إلى التصفية المعنوية التي طالت مشايخ ووجهاء وأعيانا شيعة في مجتمعاتهم.
ذنبهم بحسب الخطي «أنهم ليسوا من المؤمنين بمبدأ ولاية الفقيه، وصولا إلى القيام بأعمال عنيفة مثل الاغتيالات والتفجيرات، كما حدث في منشآت شركة (صدف) في مدينة الجبيل الصناعية شرق المملكة، وكما حدث في موسم حج عام 1989 في مكة المكرمة».
ويتابع الخطي: «أزْعُم أنه لو دُرِسَت خارطة توزع الولاءات السياسية في المجتمعات الشيعية في دول الخليج العربية، بدقة، فلن تظهر نتيجة إحصائية لصالح إيران، وربما لن تظهر أي نتيجة إحصائية تدل على قدرة أي فصيل من فصائل الإسلام السياسي الشيعي على الحصول على أغلبية موالية؛ لكن طبيعة الأمور في الظاهر لا تسير وفق الواقع الذي قد تشخصه الدراسة والإحصاء؛ فالدراسة والإحصاء قد يُنْطِقان صمت الأغلبية، بينما المشهد الظاهر يقع تحت سطوة أقليات منظمة تمتلك أدوات تعبير تبدو من خلالها، للعيان، كأنها ممثل شرعي للغالبية، وهذا يجلب معه تبعات، أخطرها على الإطلاق تعميق أزمة الثقة، وتعزيز الشكوك في الولاء الوطني، وإدامة قلق ازدواج الهوية».
على الرغم من كل هذا الإرث الدموي الذي أنهت به «أحزاب الله» الإيرانية أواخر الألفية الثانية، كان عام 2006 ولادة جديدة روّجت لها بعض مجاميع اليسار واليسار القومي، بعد حربه الدعائية ضد إسرائيل التي كلفت لبنان بنيته التحتية. وكانت إحدى القنوات التلفزيونية الخليجية المرموقة المنبر الأول للجماعات الأصولية السنية من «القاعدة» و«الإخوان المسلمين»، كما كانت أيضا المنبر الأول للإسلام السياسي الأصولي الشيعي في تلك الفترة.
بحسب الخطي: «استثمرت إيران في عامل التمييز الذي أَضَّر بالأقليات الشيعية العربية، وشاركها في استثمارها طيف من اليسار واليسار القومي، خابت آماله بفشل مشروعه السياسي، مما حوله إلى معارض للأنظمة القائمة دون مشروع نهضوي واضح السمات».
غير أن نسيرة يفضل عدم الاستغراب من هذا التداخل: «في ظني أن الثورة الخمينية عند اندلاعها كما كثير من الثورات والانتفاضات، وما ترفعه من شعارات، خدعت كثيرا من المخلصين، وكثيرا من القوى المدنية. كثير من شباب الثورة انتخبوا (محمد) مرسي مثلا ووقفوا معه، ثم كانوا جزءا من حراك خلعه في 30 يونيو (حزيران)! هذا أيضا ما حدث مع كثير من ناشطي ومثقفي اليسار في الموقف من ثورة الخميني أو في الموقف من حزب الله، الكثيرون ينجذبون لدعاوى المقاومة وشعارات التنظيمات، لكن بعد اختبارها ينفصلون عنه. أذكر أن السيد هاني فحص مثلا كان مقربا جدا من الخميني في حياته، لكنه باقي عمره صار مناهضا للتمدد الإيراني ومعارضا لحزب الله نفسه!.. وكذلك آخرون».
الأكيد أن ذكرى تفجيرات مكة على يد «حزب الله الكويتي» وعلى أيدي كويتيين تتقاطع مع حالة الإرهاب المتناسل من قبل «داعش» والموجه في أحد أطيافه ضد المساجد الشيعية في السعودية والكويت. فيما تواجه المنطقة دهاليز غير مسبوقة من العتمة مع استقطابها للمجرمين والمرتزقة الغرباء الذين لا أوطان لهم مستغلة تسخين الملف الطائفي.