المدرب اللبناني نزيه العلي: فن الآيكيدو يحول العنف إلى سلام

نزيه العلي المولود في طرابلس اللبنانية عام 1979، عاش الظرف المريع في الحرب. كان المناخ عنيفاً؛ قصف وقنص وتلويح بالذبح على الهوية. لا يحبذ استعادة المرحلة الفجة، لكن لا مهرب من بعض ملامحها لفهم تركيبة الشخصية. النشأة مع العنف، تصاحبت مع توغل الخوف والقلق. عام 1993 شاهد فيلماً للنجم الأميركي ستيفن سيغال، لفته. أعجب بممارسته فناً قتالياً يمزج الأناقة بالقسوة. سأل عنه، فتعددت الأجوبة: البعض قال كاراتيه وآخرون جودو. أدرك التسمية الدقيقة بعد تقص: آيكيدو؛ فن قتالي قلب حياته.
آنذاك، لم يكن الإنترنت قد تأهب للمساعدة. بمجهود فردي وبالطرق التقليدية، طارد المعلومة. توصل، هو يكتشف توق نجاته، إلى أنه فن ياباني يمارسه «الساموراي»، فمشى باتجاهه. كان همه الأول وفق ما يروي لـ«الشرق الأوسط»، إيجاد مدرب. لم يلمح مهتماً بهذا الفن القتالي في الشمال اللبناني، ولم يؤسس له اتحاد على مستوى البلاد. ذات يوم، بلغه أن معلماً في الميناء (طرابلس) متخصصاً في الجودو والكاراتيه يهوى الآيكيدو. طرق بابه. مشوار المعرفة صقل شخصيته.
ما جذب نزيه العلي إلى الآيكيدو هو استطاعته منح المرء مرونة وقوة بدنية: «بفضله، يتناغم الإنسان مع القوة عوض مواجهتها. لنضرب مثالاً على مستوى الطبيعة: إذا كانت الشجرة يابسة فمن السهل كسرها. أما الأشجار الخضراء، فتشعر بتمايلها كأنها تجري مفاوضات مع الريح. الآيكيدو يشبه هذا المفهوم. فحين يعترض أحدهم الآخر بقوة تفوق قوته، عليه السيطرة عليها وإعادة توجيهها. السيطرة تعني الامتصاص».
تصبح قوة الخصم في متناول الشخص، فيضيف إليها قوته ويستعمل القوتين معاً للجم التهديد؛ وهو قد يكون لكمة أو عنفاً أو حتى عملية اغتصاب، وسائر ما يشكل الأذى الجسدي. كانت البدايات مربكة، فهذه الثقافة لم تحظ بشعبية. آنذاك، كان التقاتل الأهلي قد همد للتو، وفكرة العبور إلى المناطق لم تكن مستحسنة. انتزاع الأسى والأحزان من الأذهان كان شاقاً والغضب الداخلي هائل. بالنسبة إلى نزيه العلي، «الغضب أحد مصادر العنف. حين يتعذر على المرء حل مسألة، يراكم خيبة وخوفاً يحرضان على الأسوأ، فيتجلى العنف ضمن أشكال جسدية أو عاطفية أو عقلية، وشتى النواحي».
عام 1995، تعلم الآيكيدو وبدأ يمنحه الالتزام. ندرة الأساتذة في بيروت، فرضت مضاعفة المجهود. وبعد تنقل في اختصاصات جامعية لم تولع شغفاً في داخله، سافر إلى الإمارات. بجانب عمله في المقاولات، طارد أحلامه. تمسك بطموحه وهو يعلم أن مساحات تحقيقه ضئيلة، ولعلها شبه معدومة آنذاك في لبنان. سحره هذا الفن الياباني، وكمغناطيس، استحال الفرار من جذبه.
«الآيكيدو فن استعمال قوة الخصم ضده»، يختصر التعريف، «وبواسطة تقنيات، يمكن تثبيته على الأرض، فرميه». يشرح مطولاً كمن يفرغ أعذب ما يتأجج في نبعه. تكثيفه التعليم خارج لبنان جعله يقطع أشواطاً في مراكمة الخبرة. مع الوقت، والتدرج من الحزام الأبيض إلى ثلاث درجات ما بعد الأسود، أصبح أستاذاً يدرب تلامذة ويغذي تجربته.
دعي في العام 2013 للمشاركة في ندوة عن الآيكيدو وورشة تدريب في تايلاند. سعيه وراء الهدف، يمنحه تصميماً على بلوغ أعلى المراتب. ترن في رأسه مقولة أستاذه الياباني: «في الآيكيدو، لا منافسة. هي فن قتالي عسكري يعنى بالأخلاقيات العالية. انطلق في العلم والتعليم واتبع المبادئ».
يتكاثر تلامذته الذين ينقل إليهم أن الآيكيدو ليس رياضة، بل طريق حياة. يمر بفترات عصيبة، وبفضل إتقانه المهارة يتجاوز. الآيكيدو عراب صحته النفسية، معدل مزاجه، ومعنى إحساسه بوجوده. يوم تفاقمت الضغوط عليه، وشعر مراراً أنه يبدأ من الصفر، اتخذه درعاً منيعاً؛ حتى اشتد عوده ونهض فاعتمده مهنة ومورد رزق. ينظر إلى الوراء ويختصر حياته: «الآيكيدو منحني روح المقاتل وطريقة التفكير لهزيمة كل شقاء».
تعلم نزيه العلي التعامل مع الخصم وانتزاع سلاحه، أكان مسدساً أم عصا أم سكيناً؛ وينقل المعارف إلى تلامذته. ببهجة، يسرد ذكرياته خلال تدريبات قدمها لفرق في الجيش والشرطة. درب في لبنان والإمارات وأميركا وتايلاند، حيث اختير لتصميم مشهد قتالي في فيلم والمشاركة أيضاً بالتمثيل: «تجربة لا تنسى».
يتابع حالياً إعطاء الدروس والإصغاء للتجارب، فمنح تقنيات المواجهة وفق الحالة. يذكر: «الآيكيدو مراحل، وصولاً إلى الارتقاء والخبرة. هي مستويان: جسدي أي رد الاعتداء، وعاطفي أي الثقة بالنفس. بالتكرار والممارسة، تظهر نتيجة السيطرة على مصدر العنف وامتصاص الحركة المؤذية وتحويلها إلى وضع يخل توازن الخصم، فيقع».
يسمي الآيكيدو «فن السلام»، لاعتبار أن النصر العظيم هو انتصار الإنسان على نفسه والنسخ القديمة التي كأنها: «يعلم من هو عصبي التحول تدريجياً نحو الصبر. ويساعد النساء المعرضات للعنف على التصدي. نحن حين نفهم الصراعات ونحاول تفكيك الأسباب المؤدية إليها، نحول العنف إلى سلام. لا يغيب عن بالي مشهد جندي أميركي شهد على مجازر في العراق، أتاني في أواخر أربعيناته لتعلم الآيكيدو. استراح حين تدرب على استيعاب القسوة».