5 أشهر على تحرير عين عرب (كوباني): رحلة عودة محفوفة بالمخاطر إن لم تسعفها المنظمات الدولية

بعد مرور خمسة أشهر على إعلان تحريرها من تنظيم داعش، تستمر محاولات المدنيين في العودة إلى مدينة عين العرب (كوباني) شمال سوريا، بعد أن نزحوا عنها هربا من الحرب التي شنها تنظيم داعش للسيطرة على المدينة. وبحسب الإحصائيات الرسمية التركية التي أعلن عنها والي شانلو أورفا، فإن ما يقارب 65 - 70 ألف نازح عادوا إلى مدينتهم عبر بوابة «مرشد بينار»، أي ما نسبته 25 في المائة من عدد النازحين الأصليين. ولكن هذه العودة تتزامن مع موجة نزوح معاكسة صوب تركيا، مجددًا، عقب محاولات فاشلة لأبناء عين العرب في مقارعة بيئة بائسة تكاد تخلو في حدها الأدنى من مقومات الحياة الأساسية.
وأهمّ ما في هذه البيئة الطاردة للمدنيين، غياب الأمان، فحرب تنظيم داعش، تسببت في تحول المدينة إلى أنقاض، هذا عدا عن الألغام التي لا تزال تحصد المزيد من أرواح المدنيين حتى بعد انتهاء الحرب، والتي تشمل الأراضي الزراعية، الأمر الذي يثير المخاوف لدى الأهالي المعتمدين أساسا على الزراعة كمصدر أساسي في تأمين قوت حياتهم. وسبق لتقرير صدر من الأمم المتحدة، أن أشار إلى أن هناك قرابة 3000 منزل مدمر في المدينة بشكل كلي، وأكثر من 5000 بشكل جزئي، إضافة إلى عشرات القرى التي سويت بالأرض. وأفاد التقرير أن عشرات القرى الأخرى مدمرة جزئيًا، راصدًا نسبة تدمير المدينة بنحو 70 في المائة، مع تدمير المشافي والبنية التحتية وخطوط الري والصرف الصحي والكهرباء، في مدينة كان يصل تعداد قاطنيها قبل الحرب إلى نصف مليون نسمة.
وأمام هذه التحديات، يشكل ارتفاع الأسعار وندرة المواد وقلة اليد العاملة، وصعوبة المواصلات داخل المدينة، فضلاً عن التأثيرات النفسية العميقة، وغياب الاستقرار، أهم المعوقات أمام عودة سكان عين العرب، الذين ورغم كل الظروف القاسية، تجدهم سعداء عند دخولهم إلى مناطقهم بشعور يملأه الفخر بمدينة سورية وقفت في وجه الإرهاب وطردته منها. يقول صالح حبش وهو أحد العائدين مؤخرًا من تركيا إلى المدينة المدمرة «رغم كل شيء، فإن الوضع في عين العرب ليس مأساويا تماما، اليوم شعرت براحة لم أشعر بها منذ 6 أشهر». هذه المشاعر هي ذاتها التي ينقلها الكثير من العائدين بعد رحلة هروب من الموت، والقصف، والتشرد في ساحات وشوارع مدينة سروج التركية والمخيمات الموزعة على الشريط الحدودي، والوقوف مع الحشود المتجمهرة لشهور طويلة وسط المنطقة المحرمة المزروعة بحقل الألغام، تطلعا إلى اليوم الذي ستعود فيه إلى عين العرب.
منذ تحرير عين عرب في يناير (كانون الثاني) 2015. وسكان المدينة يعودون بوتيرة متزايدة للاستقرار أو لتفقد منازلهم وقراهم. لكن رحلة العودة إلى الديار محفوفة بالخطورة والمجازفة إذا لم تسعفهم المنظمات الدولية، خاصة أن الأهالي بدأوا يستشعرون اليأس من المجتمع الدولي لجهة خذلانهم، حينما حولوا مدينتهم إلى أنقاض، من دون تقديم حلول عاجلة لمشاكلهم تساعدهم في تجاوز الآثار المادية والنفسية الناتجة عن الحرب.
ولخصت لجنة محلية شكلت من الإدارة الذاتية التي تدير المدينة الآن، مطالب عاجلة في سبيل إنعاش المدينة مجددًا، منها على سبيل المثال، إنشاء مخيم برعاية دولية لاستقبال العائلات التي تهدمت منازلها وتأمين العائدين مؤقتا، إضافة إلى إعادة بناء مشفى مجهز بالمعدات والأدوية اللازمة، مع إيجاد الحلول لمخلفات المعارك والمفخخات والجثث المنتشرة والمتفسخة تحت الأنقاض. هذا مع ضرورة توفير المواد الداخلة في إنتاج الفرن الآلي، وتأمين الوقود والغاز، والمساعدة في تنظيم وإعادة بناء البنية التحتية، مع العمل على تأهيل القطاع الزراعي عبر توفير الآلات الزراعية والبذار وإيجاد حل للثروة الحيوانية المنقرضة نتيجة الحرب. كما أنها اقترحت تحويل ثلاثة أحياء من عين العرب إلى متحف بمساحة تصل إلى 80 هكتارا ليكون شاهدا على مقاومة المدينة، وهو اقتراح لم يلق قبولا من غالبية السكان الذين اعتبروا أن إعادة الحياة إلى شوارع المدينة وأحيائها وعودة الأهالي، هو أكبر تكريم للمقاومة، وأكبر انتصار على «داعش».
يقول ولات بكر، ابن عين العرب الذي ظل مرابطا على الحدود طيلة أشهر الحرب حتى دخل المدينة: «لا أصدق ما أراه أمام عيني، أي بطش نكل بمدينتنا هذه؟ ما جرى، دمار مقصود»، ويتابع: «داعش يقصد البقاء هنا ليكتمل دمار المدينة، بعد أن أدرك أن انتصاره مستحيل»، ويضيف بكر الذي عاد أدراجه إلى سروج التركية بألم وغصة: «ما شاهدته كان مؤلمًا حقًا، لقد تحولت ذاكرتي إلى ركام. هنا كنت أشتري خبز الصباح، هناك كنا نجلس معًا أنا وجاري قبيل المساء ونشرب الشاي، ونبحث في وسيلة للسفر إلى إحدى الدول الأوروبية، وفي ذلك المكان، كان بيت عمي الذي تحول إلى أنقاض».
مقبرة الشهداء أيضًا تغير مكانها، لتصبح في الدائرة الضيقة التي تراجع إليها المقاتلون الكرد في أقسى ظروف المعركة، حينما تقدم مسلحو «داعش» بأسلحتهم الثقيلة بعد انكسار خطوط الجبهة، ولم يكن من سلاح إلا الكلاشنيكوف واتخاذ قرار القتال حتى آخر طلقة. في تلك الليلة لو لم تتدخل طائرات التحالف بسلسلة غارات عنيفة لكانت فصول المقاومة قد انتهت. وحينما تتجول في العدد القليل جدًا من الشوارع السالكة في عين العرب، لا تستطيع أن تعاين إلا دمارًا وخرابًا هائلاً، وكذلك تقرأ في كل زاوية وعلى كل حجر قصة مقاومة وشهيد.
كل شوارع المدينة تنطق بقصص القتال حتى الرمق الأخير. خطوط الاشتباكات من خلال آثارها بارزة للعيان، وواضح أن الحرب انتقلت من شارع إلى شارع، من خلال الكم الهائل من آثار الرصاص، ومن خلال الدمار والخراب الطويل الذي حل بالمكان. ساتر قماشي أسود، وأحمر، وأخضر هنا، أيضًا يمكنك أن تميز من كان يقف خلفه، وأين كان يقف.
جثث متفحمة على طول الطريق، ورائحة كريهة تنبعث من تحت ركام البنايات التي اجتهد أهل عين العرب خلال العامين الأخيرين في بنائها نتيجة الازدهار العقاري، لتتحول معها المدينة الحديثة إلى بقايا صور وركام. وبعد أربعة أشهر ونصف من الحرب استطاعت (غرفة بركان الفرات) مع البيشمركة من تحرير عين العرب، في وقت لا يزال فيه التنظيم يسيطر على عدد من قرى ريف المدينة، ويشن هجماته من ثلاثة محاور.
مشاهد الدمار اليوم تغطي مساحات واسعة من المدينة التي يصعب حقًا أن يتمكن الناس من العودة إليها والعيش فيها، وهم باتوا متيقنين بأنها كانت محاربة لتنظيم «داعش» من دون أي رغبة جدية في إنهائها على المدى القريب أو في القضاء على «داعش»، فالتحالف الدولي و«داعش» جعلا من عين العرب مصيدتهما لهزيمة الآخر، حينما ظل التحالف يراقب التنظيم وهو يتقدم بسلاحه الثقيل ويحتل القرى الكردية حتى تمكن من احتلال أجزاء منها، ليبدأ بالقصف الذي كان هدفه إضعاف التنظيم لا إنهاءه. وكذلك وجد التنظيم في المدينة ملاذا وهو يزج بتعزيزات دورية من مقاتليه الانتحاريين ويعمل على البقاء صامدًا في قراها قدر ما استطاع في حرب استنزاف طويلة.
لسان حال عين العرب الآن، يقول، بأنه يترتب على التحالف أن يجد حلاً لمعاناة نصف مليون مدني نازح نتيجة هذه الحرب، وهم يعانون أقسى الظروف في ظل غياب أي دعم أو اهتمام دولي، باستثناء الدعم الإعلامي، كما أن التحالف معني بخطة إعادة إعمار المدينة التي حولتها غاراته إلى أنقاض.