مصر تطوي حقبة الصحف المسائية

ودعت مصر أخيراً حقبة الصحف المسائية عقب قرار الهيئة الوطنية للصحافة في مصر تحويلها إلى نسخ إلكترونية، وهو ما أحدث حالة من التباين بعدما انقسم الصحافيون بين مؤيد للقرار ومعارض له. فبينما رأى خبراء مصريون أن قرار وقف طباعة الصحف المسائية قد يمتد لإصدارات رسمية أخرى، أعرب آخرون عن أملهم في أن يكون القرار مرحلياً، وشددوا على أن الصحافة الورقية باقية مستمرة، على الرغم من الظروف التي تحيط بها.
الهيئة الوطنية للصحافة، المسؤولة عن إدارة المؤسسات الصحافية المملوكة للدولة المصرية، قررت تحويل إصدارات صحف «الأهرام المسائي» التي تصدر عن مؤسسة «الأهرام»، و«الأخبار المسائي» الصادرة عن مؤسسة «أخبار اليوم»، و«المساء» التي تصدر عن مؤسسة «دار التحرير للطبع والنشر»، إلى إصدارات إلكترونية، ووقف طباعتها في 15 يوليو (تموز) الماضي. وتعليقاً على هذه الخطوة، قالت الدكتورة ليلى عبد المجيد، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، لـ«الشرق الأوسط» إن «الصحافة تعاني من مشكلات اقتصادية، وتشهد بعض الإصدارات انخفاض التوزيع وضعف الإعلانات، وهي المورد الرئيسي للدخل، إضافة إلى مشكلات الديون والمنافسة مع المنصات الرقمية وارتفاع أسعار الورق، وهو ما جعل الوضع صعباً، ولعل هذه الأسباب أو بعضها أدت لقرار وقف الطباعة». وأردفت: «هذه المسألة ليست متعلقة بمصر فقط، فقد شاهدنا وقف وإغلاق عدد من الصحف الورقية حول العالم».
ومن جهته، تحفظ فتحي أبو حطب، الخبير الإعلامي، على القرار، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «القرار لم يوضح أسباب ومعايير توقف الإصدارات، كما أنه لم يطبق على جميع الصحف الورقية التي تشرف عليها الهيئة الوطنية للصحافة، والتي تعاني من الأزمات نفسها، وهو ما يفقد القرار موضوعيته، فالصحف المسائية ليست الإصدارات الوحيدة التي تواجه أزمات مالية وتراجعاً في التوزيع والتأثير، ثم إن الجانب المتعلق بالتحول الرقمي أفقد القرار واقعيته وجديته، كون الصحف التي تقرر وقف صدورها لا تمتلك مواقعها الخاصة المؤهلة تقنياً، وهو ما يعني أن تحولها الرقمي مستحيل».
واستطرد: «القرار يخلو من الأرقام، وكان يجب نشر أرقام جميع الصحف، الصباحية والمسائية. ربما تكون الصحف المسائية الأقل توزيعاً، لكن هذا لا يعني أن خسائرها هي الأعلى بين باقي الصحف، إضافة إلى أن القرار لم يذكر التجارب الرقمية والورقية الناجحة التي حققتها مؤسسات الهيئة الوطنية للصحافة، والتي يسعى إلى تطبيقها».
ومن ثم، تساءل أبو حطب عما إذا كانت «تكلفة الطباعة هي الجزء الأكبر من خسائر هذه الصحف، وإذا كان توزيع هذه الصحف ضعيفاً، فهي تطبع عدداً قليلاً من النسخ، ما يعني أن تكلفة الطباعة ليست الجزء الأكبر من ميزانيتها، إذ هناك رواتب وتكلفة تشغيل أخرى ما زالت مستمرة. وبالتالي، إذا كان وقف الطباعة محاولة لتقليل الخسائر المالية، وتطوير الصحيفة لتحقيق عائد مادي، فهذا يعني مزيداً من الاستثمار في التحول الرقمي الذي لم نر مؤشراته حتى الآن!».
ولا شك أن الصحافة الورقية في العالم تعاني من أزمات مالية فاقمتها جائحة «كوفيد - 19». ووفقاً لدراسة نشرها مركز «بيو» الأميركي للأبحاث نهاية يونيو (حزيران) الماضي، عن حال الصحف في الولايات المتحدة الأميركية، فإن «الصحف الورقية التي تشكل عنصراً مهماً من سوق الإعلام الأميركي تعرضت لضربات قاسية مع زيادة استهلاك الأخبار إلكترونياً، وتراجعت العائدات المالية وقاعدة الاشتراكات منذ بدايات الألفية الثانية، مع تزايد نمو زيارات المواقع الإلكترونية». ووفق الدراسة، فقد «تراجع توزيع الصحف اليومية بنسبة 19 في المائة، بينما تراجع توزيع الصحف الأسبوعية بنسبة 14 في المائة، ومن المتوقع استمرار التراجع».

تحدي المحتوى
الصحافي عماد الدين حسين، رئيس تحرير صحيفة «الشروق» الخاصة، تخوف خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» من أن يمتد القرار لإصدارات أخرى، قائلاً: «من الوارد أن يتكرر ما حدث مع الصحف المسائية في إصدارات وصحف أخرى ورقية، لو استمرت الظروف نفسها التي أدت إلى قرار وقف طبع الصحف المسائية». وأردف: «ضروري أن نتعامل مع القرار في إطاره الطبيعي، فعند تغيير رؤساء تحرير الصحف القومية، تم وضع الصحف المسائية تحت رئاسة رؤساء تحرير المواقع الإلكترونية، وكان هذا تمهيداً لوقف نسختها الورقية». وتابع: «أسباب القرار واضحة، فالصحف تعاني أزمات مالية، والصحف المسائية الآن لم تعد مسائية، فهي تصدر في توقيت الصحف الصباحية نفسه، وتقدم المحتوى ذاته. وعليه، فحل أزمة الصحافة يكمن في تقديم محتوى جيد قادر على جذب القراء، سواء ورقياً أو إلكترونياً، لأن المحتوى غير الجاذب سيندثر».
وبدوره، قال الصحافي عبد السلام فاروق، مدير تحرير صحيفة «الأهرام المسائي»، أحد الإصدارات التي شملها قرار الوقف، لـ«الشرق الأوسط» إن «ثمن التأخر عن اللحاق بركب التطوير الرقمي والإلكتروني كان باهظاً على الصحافة الورقية في مصر، فغالبية القراء، خاصة الشباب، لا يطالعون الورق، ونحن نعيش عصر ما بعد العولمة، وهو عصر له أدواته وقراؤه». وأضاف: «أحد أسباب هذا التأخر متعلقة بالصحافيين من جيلي الذين أمضوا حياتهم في الصحف الورقية، وعجزوا عن التكيف مع متغيرات العصر، ومن لا يتكيف مع العصر يموت». ووفق فاروق، فإن «الصحف المسائية أضاعت فرصة حقيقية للتكيف. فقبل سنة، صدر قرار تعيين رؤساء الصحف القومية الذي تضمن وضع الصحف المسائية تحت رئاسة رؤساء تحرير البوابات الرقمية للمؤسسات. ومع ذلك، لم تنجح هذه الصحف في التكيف لأن الغالبية الكاسحة من العاملين فيها ما زالت تنتمي إلى الماضي».

غضب واسع
قرار توقف طباعة الصحف المسائية أغضب كثيراً من الصحافيين المصريين وأساتذة الإعلام، فكتبوا تدوينات على حساباتهم الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي، أعربوا فيها عن «تحفظهم على وقف الصحف التي شكلت جزءاً مهماً من تاريخ مصر». فكتب الصحافي جمال عبد الرحيم، وكيل نقابة الصحافيين المصريين السابق، إن «الصحافة الورقية في مأزق خطير، تصارع من أجل البقاء، بسبب التطور التكنولوجي، وارتفاع أسعار الورق ومواد الطباعة، والأزمات الاقتصادية»، متمنياً «دعم الصحف الورقية والحفاظ عليها». وكتب الدكتور عبد الله زلطة، أستاذ الصحافة بكلية الآداب في جامعة بنها: «يوم 15 يوليو (تموز) الماضي، احتجبت (المساء)، أشهر جريدة مسائية في مصر». ووصلت الاعتراضات إلى البرلمان المصري، حيث أعلن عدد من أعضاء مجلسي «النواب والشيوخ» رفضهم لقرار وقف طباعة صحيفة «المساء»، بصفتها رائدة الصحافة المسائية.
أما الصحافي ياسر التلاوي، نائب رئيس تحرير صحيفة «المساء»، فقال لـ«الشرق الأوسط» إنه «يرفض قرار وقف النسخة الورقية لأن (المساء) ليست الجريدة الخاسرة التي تستحق وقف طباعتها، بل يصل التوزيع اليومي للصحيفة إلى 30 ألف نسخة، ويزيد إلى 35 ألفاً في أيام المباريات الكبرى والمناسبات، ما يعني أن الجريدة قد حافظت على وجودها في الشارع المصري، على الرغم من المنافسة مع المواقع الإلكترونية والفضائيات».
وأضاف أن «هذا النجاح تحقق بإصرار العاملين في الجريدة، والصحافيين الذين لا يتجاوز عددهم 136 صحافياً وصحافية، على الرغم من ضعف الإمكانيات»، موضحاً أن «الجريدة حققت عائدات إعلانية تجاوزت 11 مليون جنيه مصري خلال الأشهر الخمس الأخيرة». وللعلم، يعود تاريخ تأسيس «المساء» إلى عام 1956، وتعد أشهر الصحف المسائية في مصر، بينما أسست جريدة «الأهرام المسائي» عام 1991.
وعلى الرغم من اعتراض التلاوي على القرار، فإنه يؤكد استعداده للمنافسة في الفضاء الإلكتروني «لأن مدرسة (المساء) الصحافية في العناوين والمحتوى قادرة على جذب جمهور المواقع الإلكترونية». وفي المقابل، يعتقد أبو حطب أن «فكرة التحول الرقمي لهذه النوعية من الصحف ما تزال غير واضحة، خاصة أن أول إشارة على هذا التحول كان الإعلان في صحيفة (الجمهورية) عن إمكانية طلب نسخة صحيفة (المساء) بصيغة (بي دي إف) عن طريق رسائل (الواتساب)، وهو ما يعني أن هذه الصحف ما زالت متمسكة بالنسخة الورقية، ولا يوجد جدية في تحولها الرقمي، والمسألة فقط إيقاف الطبع».
وهنا، يقول حسين إن «فكرة توزيع الصحيفة بصيغة (بي دي إف) محاولة لامتصاص الغضب، وهي بالتأكيد ليست الفيصل في التحول الرقمي، والنجاح مرتبط بتقديم محتوى جاذب قادر على جذب القراء والمعلنين»، موضحاً أنه «لن يكون لهذه الصحف مواقع منفصلة، بل ستدمج في المواقع الإلكترونية لمؤسساتها، ويقدم الصحافيون ما ينتجونه من محتوى للنشر في هذه البوابات الإلكترونية».
ووسط حالة الجدل والتأكيد على أن الصحافة الورقية باقية، مع «ضرورة إيجاد حلول بديلة لعلاج أزماتها»، أعربت الدكتورة عبد المجيد عن أملها في أن «يكون قرار وقف طباعة الصحف المسائية مرحلياً مؤقتاً، وأن تعود هذه الصحف للصدور ورقياً مرة أخرى، أسوة بصحف أخرى حول العالم». وتابعت: «هناك كثير من الحلول للحفاظ على النسخ الورقية للصحف، فهي وثيقة مهمة للتاريخ تبقى مئات السنين، ومن أرشيف الصحف تعلمنا الكثير عن التاريخ والسياسة والحياة الاجتماعية في عصور ماضية».