كيف تمكّنت الحشرات المتزلجة من احتلال المُحيطات؟

ظهرت الحشرات على كوكب الأرض قبل ظهور الإنسان بملايين السنين وتعد إجمالا من الكائنات التي لها من الصفات والوسائل التي تساعدها على البقاء والحفاظ على أنواعها من الانقراض. وتشكل الحشرات المجموعة الأكثر تنوعا من الكائنات الحية على سطح الأرض فهي تضم أكثر من 925 ألف نوع تم وصفها والكثير غير مصنف أكثر من أي مجموعة حيوانية أخرى، كما أنها توجد في جميع البيئات تقريبا.
حشرات البحار
ربما تُخبّئ حشرات مُتزلّجات البحار متناهية الصِغر - بوصفها رائدة حشرات المحيطات - بين طيّاتها سرّ تطوير مواد مُحسنة طاردة للمياه وهو ما يعد مصدرا فائقا للإلهام بالنسبة للعلماء. وفي دراسة أجرتها جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) قدم الباحثون معلومات أكثر تفصيلاً حول السمات الجسدية لتلك الحشرة (المعروفة باسم الهالوبات)؛ لا سيّما الشعر، والغلاف الشمعي الذي يغطّي جسمها، فضلاً عن حركتها التي تُجنّبها أخطار البحار.
تقول الدكتورة جوري مهاديك، من مركز أبحاث البحر الأحمر التي عكفت على الدراسة بالتعاون مع زملائها تحت إشراف الدكتور هيمانشو ميشرا، والبروفسور كارلوس دوارتي، والبروفسور سيجوردور ثورودسن: دراستنا متعددة التخصصات هي الأولى من نوعها التي تدرس نوعين من المُتزلّجات البحرية؛ «هالوبات جرمانوس» Halobates germanus التي تسكن أسطح المحيطات، ونظيرتها التي تسكن أسطح الشواطئ «هالوبات هايانوس» H. hayanus. وقد أردنا فهم سُبل التطوّر التي سلكتها تلك الحشرات لتنجو في بيئات بحرية قاسية حيث لم يتسنّ لأنواع أخرى النجاة. تحتاج الحشرات إلى مجموعة خاصّة من أنماط التكيّف كي تظل على قيد الحياة في المحيطات، حيث تواجه الأمواج المتلاطمة، والأشعّة فوق البنفسجية، والأمطار، والمياه المالحة، والطيور والأسماك المفترسة. ولفهم المزيد عن هذه الحشرات جلب فريق الباحثين نوعي الهالوبات من البحر الأحمر والبحيرات الشاطئية الغنيّة بأشجار المانجروف التي يطل عليها حرم «كاوست»، وعكفوا على أقلمتهما ليألفا بيئة الأحواض المائية.
تقول جوري: «يتعذّر الإبقاء على الهالوبات البحرية داخل مُختبر، لذا جرّبنا وأخطأنا مرات عديدة قبل أن تنجح محاولاتنا. فهذه الحشرات تفترس أفراد نوعها، لذا كان من الضروري إشباعها على نحو جيد. وقد أمضينا ساعات نجاهد لتصوير مقطعٍ للسلوك الطبيعي لتلك الحشرات، لأنها تتقافز كثيراً».
أبحاث متعمقة
واستعان الباحثون بمعدات تصوير عالية الدقّة، من بينها مجهر إلكتروني وكاميرا التصوير بالفيديو فائقة السرعة لدراسة الشعيرات المتباينة التي تغطّي أجساد هذه الحشرات، وسلوك تنظيف أجسادها، وحركاتها في أثناء تفادي قطرات المطر والمُفترِسات التي تُحاكي بيئتها. ويُغطّي جسم الحشرة شعيرات متباينة الأشكال، والأطوال، والأقطار، ويُفرز جسدها مزيجاً شمعياً طارداً للمياه تستعين به الحشرة للعناية بنفسها.
تقول المؤلّفة المشاركة الدكتورة لانا تشينج، من معهد سكريبس لعلوم المحيطات، بجامعة كاليفورنيا في مدينة سان دييغو إن «الشعيرات متناهية الصِغر تتخذ شكل مضارب الجولف، وتتكاثف بإحكام لتحول دون توغّل المياه بينها. وفي حال غمرت المياه الحشرة عن طريق الخطأ، تُغلّفها تلك الطبقة المُشعِرة في فقاعة هوائية، مما يساعدها على التنفّس والطفو سريعاً».\ ويضيف ميشرا: «في حالات الراحة، بالكاد يُلامس الماء 5 في المائة من إجمالي سطح ساق الحشرة، لذا فهي - عملياً - تحوم على الهواء».
وإذا سقطت قطيرات من المياه على الحشرة، فإنها تتدحرج، أو، حسبما التقطت كاميرا الفريق البحثي، تقفز في حركات بهلوانية لتُزيح عنها القطرات. وقد اندهش الباحثون من مدى سرعة حركتها لتفادي المُفترِسات والأمواج الآتية.
يقول ثورودسن، المشرف على الدراسة: «لاحظنا أنه خلال انطلاق حشرات الهالوبات جرمانوس من على سطح المياه، تتسارع حركتها ليبلغ التعجيل 400 متر في الثانية المربّعة. وعيك أن تقارن تلك السرعة بنظيرتها لدى الفهد أو أسرع عدّاء في العالم؛ يُوسَين بولت، حيث تبلغ السُرعة 13 متراً في الثانية المربّعة و3 أمتار في الثانية المربّعة على التوالي. ويُعزى هذا التسارع الاستثنائي إلى ضآلة حجم الحشرة، والطريقة التي تطأ بها سطح المياه، التي تضاهي نسبياً استخدام الترمبولين لتُعزز قفزتها».
وكان الشمع الذي يفرزه جسد الحشرة محط اهتمام كبير لدى أعضاء الفريق البحثي من اختصاصيي علم المواد، الذين يعملون على اكتشاف مقاربات جديدة لتقنيات طرد السوائل، كما تُلهِم بنية شعيرات الحشرة بتصميم مواد جديدة.
يقول ميشرا: «تُطوّر مجموعتي البحثية تقنيات مُنخفضة التكلفة وأكثر صداقة للبيئة، لتقليل مقاومة الاحتكاك إبّان تحرك الأجسام في السوائل، وتنقية الأغشية، بإلهام من شعيرات حشرات الهالوبات التي تضاهي شكل عيش الغراب».