جائحة «كوفيد ـ 19» تسرع التحوّل الرقمي الإعلامي

رصد تقرير معهد «رويترز» السنوي العاشر عن الإعلام الرقمي «ازدياد معدلات الثقة في الأخبار من مصادرها الأصلية أو من وسائل الإعلام الرسمية، بالتزامن مع تنامي القلق في دول العالم بسبب انتشار المعلومات المزيفة». في حين رأى خبراء في الإعلام والصحافة أن التقرير كشف أن الدول التي لديها خدمات إخبارية عامة مستقلة يزيد فيها معدل الثقة، وأن الجمهور يُفضل الأخبار التي تحتوي على وجهات نظر مختلفة.
«الشرق الأوسط» التقت عدداً من الخبراء الذين تحدثوا عن التقرير، وقالوا إنه كشف أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للأخبار لا يزال قوياً، خصوصاً بين الشباب والمستويات التعليمية المنخفضة، وهو ما يثير التخوف من انتشار الأخبار المزيفة. وفي السياق ذاته، أشار خبراء إلى أن «نتائج التقرير يُمكن أن تنطبق تماماً على المنطقة العربية فيما يتعلق بزيادة معدلات الثقة في الأخبار من مصادرها الرسمية، وأزمة الصحافة الورقية».

الدراسة المسحية
معهد «رويترز» لدراسات الصحافة، التابع لجامعة أكسفورد البريطانية العريقة، أعلن يوم 23 يونيو (حزيران) الماضي، تقريره السنوي العاشر عن الإعلام الرقمي. واعتمد هذا التقرير على دراسة مسحية شارك فيها 92 ألف شخص من 46 دولة في أوروبا وأميركا وشرق آسيا، وأفريقيا، إلا أنه لم يشمل أي دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
التقرير أشار إلى «تنامي الثقة في الأخبار لتصل إلى 44 في المائة، بزيادة ست نقاط على العام الماضي. ولقد تصدّرت فنلندا الدول من حيث ارتفاع معدلات الثقة في الأخبار بين متابعيها بنسبة 56 في المائة، في حين احتلت الولايات المتحدة الأميركية ذيل القائمة بنسبة 29 في المائة».
أيضاً رصد التقرير «ثبات معدلات الثقة في الأخبار المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يعني اتساع الفجوة بين الأخبار بشكل عام، وتلك المعلومات المنتشرة في الفضاء الإلكتروني. ولاحظ أن القارئ بات يعطي أهمية كبرى للمصادر الموثوقة التي تتمتع بمصداقية وتقدم أخباراً دقيقة. وفي سياق متّصل، ذكر التقرير أنه «في بعض الدول، خصوصاً تلك التي لديها إعلام عام مستقل وقوي، جرى رصد استهلاك كبير للأخبار من مصادر معروفة، وقلّ هذا النموذج في دول غرب أوروبا، والدول التي كانت أخبار جائحة كوفيد - 19 فيها أقل على أجندة وسائل الإعلام، أو تلك التي لعبت فيها الأحداث السياسية والقضايا الاجتماعية دوراً أكبر».
الدكتورة نهى بلعيد، أستاذة الإعلام والاتصال الرقمي في تونس، قالت لـ«الشرق الأوسط» معلقة على معطيات التقرير، إنها «سبق أن اقترحت على أكاديمي، كان مشرفاً في السابق على إعداد هذا التقرير، أن يضم دولاً عربية كي يعطينا نظرة شاملة». وأردفت: «هناك دراسات سابقة عن مستوى الثقة في وسائل الإعلام يصدرها معهد إدلمان منذ عام 2017، وجاء في نتائج آخر دراسة أصدرها حول مستوى الثقة في الأخبار مع انتشار كوفيد - 19، أن الصحافيين يُعَدون آخر مصدر موثوق به للمعلومات حول الجائحة، ومع أن 43 في المائة من الذين استُطلِعت آراؤهم يتابعون أخبار الفيروس في وسائل الإعلام، ويؤكدون أن وسائل الإعلام مصدر موثوق به... فإن الثقة الكبرى كانت للعلماء والخبراء بنسبة 83 في المائة».
من جانبها، ترى عهدية أحمد، رئيسة جمعية الصحافيين في البحرين، أن «الصحف والمواقع الإخبارية الرسمية استفادت من الجائحة، واستعادت مصداقيتها كمصدر رئيسي للمعلومات، في ظل انتشار كثير من الأخبار المزيفة والإشاعات على مواقع التواصل الاجتماعي». وأضافت لـ«الشرق الأوسط» أنه «من الطبيعي أن يستعيد التلفزيون مكانته في ظل الجائحة مع بقاء الناس فترات أطول في منازلهم؛ ولكن في الوقت نفسه فإن الأمر لم يكن قاصراً على التلفزيون التقليدي، بل بات يشمل أيضاً الرقمي، حيث انتشر كثير من البرامج الرقمية، واكتسب مذيعون شهرتهم من وجودهم الإلكتروني».
وفي الشأن ذاته، قال إيهاب الزلاقي، رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة «المصري اليوم» الخاصة بمصر لـ«الشرق الأوسط»، إن «العام الماضي شهد عودة للبحث عن أصل الأخبار بشكل كبير، خصوصاً أن الجائحة جعلت هذه الأخبار مرتبطة بصحة الناس وحياتهم، فاتجه الجمهور للبحث عن الأخبار من مصادرها الأصلية. وهذا مكسب بسيط للإعلام، بعد فترة من سطوة مواقع التواصل التي كانت تشهد نشاطاً محموماً في الترويج للأخبار والمعلومات دون التأكد من صحتها، وكان ذلك ينطبق على النخب وبعض الصحافيين أيضاً».
لكن الدكتور أيمن ندا، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، يرى في لقاء مع «الشرق الأوسط»، أن «تقرير رويترز هذا العام لا يختلف عن التقارير السنوية السابقة، التي تؤكد المعلومات نفسها سنوياً مع زيادات طفيفة في الأرقام». ويتابع: «مستوى الثقة في الأخبار مثلاً الذي يتحدث التقرير عن زيادته، يبلغ الآن 44 في المائة، ما يعني أن هناك 56 في المائة لا يثقون في الأخبار. وإذا نظرنا إلى تفاصيل التقرير، فسنجد أن نسبة انعدام الثقة ترتفع في الولايات المتحدة لتصل إلى ما يزيد على 80 في المائة، وتقل في دولة مثل فنلندا... مع أن الولايات المتحدة تضم أشهر وسائل الإعلام، ومثلها نجد تراجعاً للثقة في بريطانيا وفرنسا وزيادتها في ألمانيا». ووفق ندا، فإن «الثقة مشكلة ثقافية أزلية في المنطقة العربية، والأمر يزداد مع سعي وسائل الإعلام خلف الترند من دون تفكير في مدى تأثير ذلك على مستوى الثقة فيها».
عودة إلى مضمون تقرير «رويترز» نفسه، فنراه يشير إلى أن «الأخبار التلفزيونية استمرت في الأداء بقوة في بعض الدول، في حين عانت الصحافة الورقية تراجعاً حاداً، حيث أثرت سياسات الإغلاق العام والحظر خلال الجائحة على توزيع الصحف، الأمر الذي سرّع عملية التحول الرقمي لهذه الصحف». وبالفعل، ذكر الدكتور راسموس نيلسن، مدير معهد «رويترز» لدراسات الصحافة، في مقدمة التقرير، أن «فيروس كوفيد - 19 سرّع كثيراً من النقاط التي رصدناها في تقاريرنا السابقة فيما يتعلق بالتحوّل الرقمي وسيطرة المنصات على الإعلام».

حال العالم العربي
وتقارن نهى بلعيد بين ما جاء في تقرير «رويترز» ووضع الإعلام في منطقة الشرق الأوسط والدول العربية، وتقول إن «هذه النتائج يمكن أن تنطبق تماماً على المنطقة العربية، فقد اجتمعنا من جديد كعائلة حول التلفزيون، مثلما اعتدنا سابقاً، ووجدنا أنفسنا متابعين لما تبثه القنوات التلفزيونية خلال 24 ساعة، حيث يكاد التلفزيون لا يصمت بالبيت، لا سيما أننا كُنا نجهل في البداية تفاصيل هذا الفيروس، فوجدنا أنفسنا نبحث عن أخبار رسمية، وشهادات الباحثين والخبراء الحاضرين باستوديوهات التلفزيون». ثم تضيف: «لكن أزمة الصحافة الورقية سبقت أزمة كوفيد - 19، ولذا من الطبيعي أن تلجأ الصحف الورقية إلى تأسيس مواقع إلكترونية حتى تنقذ نفسها، مُحافظة على عدد ضئيل من مطبوعاتها».
أما الزلاقي فيرى أن «وضع الصحف الورقية ازداد سوءاً مع الجائحة لعدة أسباب، من بينها المخاوف من نقل العدوى باللمس، فتراجع عدد الصحف المطبوعة يومياً، وفي المقابل زاد استهلاك الجمهور للأخبار على المنصات الرقمية». ويشير إلى أن «الوضع في الغرب مختلف، حيث توجد أنظمة للدفع والاشتراكات في المواقع الإلكترونية، وكان من الطبيعي أن تزيد هذه الاشتراكات في ظل الجائحة، بحثاً عن خبر أو معلومة من مصدر موثوق. لكن عربياً لا يوجد هذا النوع من المحتوى الذي يجبر القارئ على أن يدفع في مقابله».
وبالنسبة للتقرير وما رصده أميركياً، فإنه رصد «تراجع الاهتمام بالأخبار بدرجة كبيرة في الولايات المتحدة في أعقاب انتخاب الرئيس جو بايدن، خصوصاً من الجماعات ذات التوجه السياسي نحو اليمين». كذلك لاحظ «اهتمام عدد من غرف الأخبار بالتنوع وتمثيل مختلف الفئات، حيث ارتفع تمثيل الشباب خصوصاً الفتيات، كما كانت هناك زيادة في تمثيل الفئات المهمشة والجماعات العرقية». ورصد أيضاً أن «غالبية المستطلعين (74 في المائة) يفضلون الأخبار التي تعكس مختلف وجهات النظر، ولا تفرض عليهم وجهة نظر معينة، ويعتقد 66 في المائة أن الإعلام يجب أن يكون محايداً»، في حين ترى بعض المجموعات الأصغر سناً أن «الحياد ربما لا يكون مناسباً في بعض المواضيع مثل قضايا العدالة الاجتماعية».
أيمن ندا، من جهته، يلاحظ نقطة مهمة يتحدث عنها التقرير، هي أن «الدول التي لديها خدمات إخبارية عامة مستقلة يزيد فيها معدل الثقة مثل اليابان. وهذا يعني أن نمط وشكل الملكية له علاقة في مستويات الثقة بوسائل الإعلام».
على صعيد آخر، يوضح التقرير أن «استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للأخبار لا يزال قوياً، خصوصاً بين الشباب وذوي المستويات التعليمية المنخفضة، مع شيوع تطبيقات المراسلة مثل واتساب وتليغرام في الجزء الجنوبي من العالم، وهو ما يعني تنامي القلق من المعلومات المضللة، خصوصاً حول الجائحة». ويرصد «تنامي القلق على مستوى العالم بشأن انتشار المعلومات المضللة والمزيفة لتتراوح ما بين 82 في المائة بالبرازيل، و37 في المائة بألمانيا».
أخيراً، يسجّل «رويترز» وجود «زيادة ملحوظة في الدفع مقابل الحصول على الأخبار على المواقع الإلكترونية في عدد قليل من الدول الغنية غرب أوروبا؛ لكن النسبة الغالبة في معظم الدول لا تزال قليلة، ففي 20 دولة ممن يطبقون أنظمة دفع للمحتوى، فقط 17 في المائة من العينة التي شملتها الدراسة يدفعون مقابل المحتوى الإلكتروني. وتتصدر النرويج قائمة الدول في هذا المجال بنسبة 45 في المائة، تليها السويد بنسبة 30 في المائة، في حين تبلغ النسبة في ألمانيا 9 في المائة، وبريطانيا 8 في المائة، وفي معظم الدول فإن غالبية هذه الاشتراكات تذهب لعدد قليل جداً من المؤسسات الإعلامية الكبرى المعروفة». وبين النتائج الأخرى التي رصدها التقرير «تباطؤ نمو وانتشار البودكاست رغم الاستثمارات الضخمة التي ضُخّت في هذا المجال، وزيادة الاعتماد على الهواتف الجوالة للحصول على الأخبار، إذ تصل نسبة المعتمدين على الهواتف الجوالة إلى 73 في المائة، بينما استقرت نسبة مستخدمي الكمبيوتر وأجهزت الحاسوب اللوحية في الحصول على الأخبار أو تراجعت». وأكد التقرير «تغير نمط استهلاك الأخبار، مع وجود فوارق تكنولوجية بين دول العالم».