الاستثمار في الطبيعة يحمي الإنسان والأرض


أعلنت الأمم المتحدة السنوات من 2021 إلى 2030 عقداً للأمم المتحدة من أجل استعادة النُّظم البيئية في جميع أنحاء العالم. وبمناسبة الاحتفال السنوي بيوم البيئة العالمي في 5 يونيو (حزيران)، أُطلقت دعوة للمبادرة إلى توفير الدعم السياسي والبحث العلمي والتغطية المالية لتوسيع نطاق استعادة النُّظم البيئية على نطاق واسع، بهدف إحياء ملايين الهكتارات من الأوساط الطبيعية الأرضية والمائية.
وتعدّ النُّظم البيئية شبكة الحياة على الأرض التي تجمع الكائنات الحية والتفاعلات فيما بينها ومع الأشياء المحيطة في مكان محدد. وهي توجد على جميع المستويات من حبيبات التربة إلى الكوكب بأكمله، بما فيها الغابات والأنهار والأراضي الرطبة والمراعي ومصبّات الأنهار والشعاب المرجانية. كما تحتوي المدن والأراضي الزراعية على نُظم بيئية مهمة، وإن كانت معدّلة بشرياً.
- الاستثمار في الطبيعة
توفّر النُّظم البيئية فوائد جمّة للإنسان، إذ يقوم نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي على الطبيعة، ويعتمد أكثر من ملياري شخص على القطاع الزراعي لكسب عيشهم. وهي تضمن المناخ المسـتقر والهواء الذي نتنفسه، وإمدادات الميـاه والطعام والمواد من جميع الأنواع، والحماية من الكوارث والأمراض.
وفي كل مكان، تواجه النُّظم البيئية تهديدات كبيرة، حيث يفقد العالم سنوياً 10 ملايين هكتار من الغابات. وتبلغ كلفة تآكل التربة وأشكال التدهور الأخرى أكثر من 6 تريليونات دولار سنوياً في إنتاج الأغذية المفقودة وخدمات النظام البيئي الأخرى. ويتعرض ثلث الأرصدة السمكية العالمية للاستغلال المفرط، بزيادة 10% عمّا كان عليه في عام 1974.
ويرجَّح أن يؤدي تدهور الأراضي إلى خفض الإنتاجية الغذائية العالمية بنسبة 12%، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة تصل إلى 30% بحلول 2040. ومن المتوقع أن يهاجر ما يصل إلى 700 مليون شخص بسبب تدهور الأراضي وتغيُّر المناخ في منتصف القرن الحالي. ويمكن أن يؤدي تدهور النظام البيئي إلى زيادة الاتصال بين البشر والأنواع البرية، مما يعزز فرص ظهور وانتشار الأمراض.
وفي المقابل، يمكن أن يؤدي تحقيق هدف «تحدي بون»، المتمثل في استعادة 350 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة والأراضي التي أُزيلت أشجارها في جميع أنحاء العالم، إلى نحو 9 تريليونات دولار من الفوائد الصافية. وتضمن استعادة توازن المناطق الحرجية وحدها توفير الأمن الغذائي لنحو 1.3 مليار شخص. وتؤمّن استعادة الشِّعاب المرجانية في أميركا الوسطى وإندونيسيا عوائد إضافية تصل إلى 2.6 مليار دولار سنوياً. كما تقلل استعادة الأماكن الرطبة والنظم البيئية الأخرى لمستجمعات المياه تكاليف معالجة المياه بنحو 890 مليون دولار سنوياً.
وفي مجال تغيُّر المناخ، تسهم استعادة النُّظم البيئية والحلول الطبيعية الأخرى في إزاحة ثلث الانبعاثات الكربونية المستهدفة بحلول 2030 لإبقاء الاحترار العالمي دون درجتين مئويتين، إلى جانب مساعدة المجتمعات والاقتصادات على التكيُّف مع تغيُّر المناخ. وتكفي استعادة 15% من الأراضي التي تغيّر استخدامها لمنع انقراض 60% من الأنواع المهددة. كما تسهم استعادة النُّظم البيئية في تحقيق جميع أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر بحلول سنة 2030، لا سيما القضاء على الفقر والجوع.
ورغم العوائد المجزية والغايات الكبرى التي تكفلها استعادة النُّظم البيئية، لا يزال الاستثمار في الطبيعة غير كافٍ لمواجهة تغيُّر المناخ والحفاظ على التنوع الحيوي ووقف تدهور الأراضي. ويشير تقرير «حالة التمويل من أجل الطبيعة»، الذي صدر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) ومنظمات أخرى في شهر مايو (أيار) 2021، إلى أن العالم بحاجة إلى 8.1 تريليون دولار للاستثمار في الطبيعة حتى منتصف القرن، بحيث يتضاعف الاستثمار من 133 مليار دولار في السنة حالياً إلى 536 مليار دولار في 2050.
ويقترح التقرير ضرورة إجراء تحوُّلات هيكلية لسد فجوة التمويل، التي تبلغ 4.1 تريليون دولار، عبر التعافي الاقتصادي من جائحة «كوفيد - 19» على نحو أكثر استدامة، ومراجعة الدعم الحكومي للزراعة والوقود الأحفوري، وخلق حوافز اقتصادية وتنظيمية أخرى. ووفقاً للتقرير، ستتطلب إدارة الغابات وحفظها واستعادتها ما يزيد قليلاً على 200 مليار دولار من إجمالي الإنفاق السنوي على مستوى العالم، أي نحو 25 دولاراً لكل إنسان.
ويؤكد التقرير حاجة الشركات والمؤسسات المالية إلى المساهمة أكثر في دعم الحلول القائمة على الطبيعة، من خلال تقاسم المخاطر والالتزام بتعزيز التمويل والاستثمار بطريقة طموحة وبأهداف واضحة ومحددة زمنياً. ويشير التقرير إلى أن فقدان ربع الغطاء الشجري العالمي خلال العقد الماضي كان بسبب سبعة أنشطة زراعية فقط هي تربية الماشية وإنتاج نخيل الزيت وفول الصويا والكاكاو والمطاط والبن وألياف الخشب. ومن المتوقع أن تستمر الخسائر في الغابات والمساحات البرية الأخرى في الارتفاع، مما يؤدي في النهاية إلى تعريض الصناعات التي تعتمد على الموارد الطبيعية للخطر.
إن كثيراً من الأصول المالية العالمية عُرضة للخطر في حال فقدان شيء صغير مثل النحل. هذه الحشرة التي لا تحظى بالتقدير، شأنها شأن الخفافيش والطيور والحشرات الأخرى التي تنقل اللقاح، تلعب دوراً حاسماً في غذاء الإنسان وصحة النُّظم البيئية. ويوفر نحل العسل وحده خدمات تلقيح تتراوح قيمتها بين 15 و20 مليار دولار سنوياً. ولا يمكن إنكار تأثير فقدان التنوع الحيوي على جميع قطاعات الاقتصاد، حيث يشير أحد التقديرات إلى أن كلفة فقدان الكائنات الناقلة للقاح تزيد على 500 مليار دولار سنوياً.
- مبادرات طموحة ونجاح منقوص
خلال السنوات القليلة الماضية أصبحت استعادة النُّظم البيئية المتدهورة أو إنشاء أنظمة جديدة هدفاً عالمياً طموحاً. الصين، على سبيل المثال، تعمل على تشجير 35 مليون هكتار في مناطقها الشمالية القاحلة بحلول 2050. والحكومة الاسكوتلندية تعتزم إنفاق 250 مليون جنيه إسترليني على ترميم أراضي الخث على مدى السنوات العشر المقبلة. كما أعلنت السعودية مؤخراً عن مبادرة إقليمية تحت عنوان «الشرق الأوسط الأخضر» تلحظ استصلاح 200 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة.
ويؤكد تقرير «الكوكب المحمي»، الذي صدر عن «يونيب» في مايو 2021، إحراز المجتمع الدولي تقدماً كبيراً في تحقيق الهدف العالمي المتمثل في حماية ما لا يقل عن 17% من الأراضي والمياه الداخلية، و10% من البيئة البحرية، بحلول 2020.
ويوجد حالياً 22 مليون كيلومتر مربع (16.6%) من النُّظم البيئية للأراضي والمياه الداخلية، و28 مليون كيلومتر مربع (7.7%) من المياه الساحلية والمحيطات، ضمن المناطق الموثّقة المحمية والمحافظ عليها. وهي مساحات تزيد بمقدار 21 مليون كيلومتر مربع على مساحات المناطق المحمية في سنة 2010.
وعلى الرغم من التقدم الحاصل، يرى التقرير أن العالم فشل في الوفاء بالالتزامات المتعلقة بجودة هذه المناطق المحمية، ذلك أن ثلث مناطق التنوع الحيوي الرئيسية على الأرض أو المياه الداخلية أو المحيط ليست محمية على الإطلاق. كما أن أقل من 8% من الأراضي المحمية متصلة وتتيح للأنواع الحية التحرك بشكل طبيعي وتسهم في صون العمليات البيئية، أما البقية فتقطع أوصالها مشاريع وإنشاءات تمنع التواصل.
ويدعو التقرير إلى مزيد من الإجراءات بشأن الإدارة العادلة لهذه المناطق، بحيث لا يتحمل السكان المحليون تكاليف الرعاية بينما يتمتع الآخرون بفوائدها. وتعد هذه الخطوة أساسية نحو بناء شبكات حماية تحظى بدعم ومشاركة الناس في كل مكان.
ويُعد توفير الحماية للموائل الطبيعية مدخلاً للحفاظ على التنوع الحيوي، وهو النهج الذي يسير عليه مجمل المبادرات العالمية لاسترجاع النُّظم البيئية. وفي الوقت ذاته، يفترض أغلب هذه المبادرات أن المناطق التي تستوجب الحماية هي الأماكن التي لا يخالطها النشاط البشري. وهذا تصور خاطئ، لأن كثيراً من النظم البيئية يعمل بشكل جيد بفضل الإشراف البشري. ويسجل التاريخ حالات انسجام كثيرة بين الإنسان والنظم البيئية، كما في العلاقة بين غابات الأمازون وسكانها الأصليين، وبين أدغال أفريقيا والقبائل المحلية.
إن استعادة النُّظم البيئية تسهم في الحفاظ على التنوع الحيوي، وتحسّن صحة الإنسان ورفاهيته، وتزيد الأمن الغذائي والمائي، وتوفر السلع والخدمات والازدهار الاقتصادي، وتدعم التخفيف من آثار تغيُّر المناخ والقدرة على الصمود والتكيُّف معه. وأياً تكن التحديات التي تَحول دون إعادة النظم البيئية المتدهورة إلى ما كانت عليه سـابقاً، يمكن بمبادرات مخلصة ومدروسة جعلها تعمل بطريقة طبيعية وأكثر استدامة تحمي ما تبقى وتُصلح ما تضرر.