هنرييش هاينه... الشعر والحب

ولد الشاعر هنرييش هاينه في مدينة دوسلدورف بألمانيا عام 1797 ومات مقعداً غريباً في باريس عام 1856 عن عمر يقارب الستين. وبما أنه من أصول أقلوية يهودية فقد علّق آمالا كبيرة على فلسفة التنوير الكونية وابتعد كثيراً عن انتمائه الديني، بل وحاول طمسه كلياً لكي يلتقي مع الآخرين على أرضية واسعة مشتركة تضم الجميع. وهو ذات الشيء الذي فعله معاصره كارل ماركس. فماركس أيضاً كان من عائلة يهودية ولكنها غيرت دينها وأصبحت مسيحية بروتستانتية قبيل ولادته. ومعلوم أن ماركس تحرر من الطائفية كلياً ودعا الأقليات إلى عدم التقوقع على الذات، وإنما الانفتاح على العناصر التقدمية المتحررة لدى الأغلبية والعمل معهم من أجل عصر تنويري جديد يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات أمام دولة القانون والمؤسسات. وهذا ما حصل في ألمانيا بعد موت هاينه وماركس بجيل أو جيلين. ثم أصبح نظام المواطنة المتساوية راسخاً حالياً في كل أنحاء أوروبا الحديثة. فلم يعد الألماني يتساءل بينه وبين نفسه إذا ما التقى ألمانياً آخر بالصدفة لأول مرة في دولة أجنبية: هل هو يا ترى كاثوليكي أم بروتستانتي؟ هل هو من مذهبي أم لا؟ وإنما كل ما يهمه هو أنه ألماني مثله يتكلم اللغة الألمانية وينتمي إلى تراثها الطويل العريض. أما طائفته أو مذهبه فهذا آخر ما يفكر فيه.
في عام 1871 قرر هنرييش هاينه مغادرة ألمانيا والاستقرار في باريس عاصمة الحضارة والثقافة الأوروبية في ذلك الزمان. ومن لا يعشق باريس ويرغب أن يقيم فيها يوماً ما كما فعل همنغواي وجويس وبيكيت وعشرات المبدعين الآخرين؟ باريس ضرورية للتنفس والإبداع والحياة البوهيمية والتسكع، خصوصاً التسكع على غير هدى... وكان مشاءً كبيراً، والمشي لا نهاية له في مدينة كعاصمة النور. إنه متعة ما بعدها متعة. وقد سبق بودلير إلى معاشرة «البنات» في الحي اللاتيني قبل أن يتعرف على امرأة فرنسية أحبته وساعدته كثيراً وجعلته يستقر. والمرأة مفتاح الوطن عادة. المرأة هي بحد ذاتها وطن.
وكثيراً ما كان يغير سكنه، ولكنه لم يكن يبارح حي مونمارتر الشعبي إلا قليلاً. ومعلوم أنه على هضبة المونمارتر توجد كنيسة جميلة تدعى: القلب المقدس. لاحظوا الاسم! وهي تطل إطلالة بانورامية رائعة على باريس ويتجمع حولها الفنانون ورسامو «البورتريهات» أو الصور الشخصية... وفي ذلك الوقت كان يتردد كثيراً على الاشتراكيين الطوباويين وفي طليعتهم المفكر الكبير سان سيمون. في الواقع أن هاينه كان شاعراً رومانطيقيا قبل كل شيء، ثم دعا إلى تجاوز المدرسة الرومانطيقية لاحقاً. ولكنه كان أيضاً صحافياً ومفكراً منخرطاً في هموم عصره وقضاياه. لقد جمع بين الشعر والفكر والأدب. وهو على أي حال أحد كبار الشعراء الألمان في القرن التاسع عشر.
ينبغي العلم بأن باريس كانت عاصمة الحرية في ذلك الزمان إذا ما قسناها بالمدن الألمانية التي كانت لا تزال محكومة من قبل الإقطاع والأصولية والاستبداد. فباريس بعد نصف قرن من الثورة الفرنسية كانت تؤمّن للكاتب حرية التفكير والنشر والتعبير إلى حد لا يستهان به. أما السلطات الرجعية الجرمانية فكانت قد أدانت عصبة «ألمانيا الفتاة» التي ينتمي إليها هاينه مع آخرين عديدين. وهي جماعة تدعو إلى تجديد الأدب والحياة السياسية الألمانية على غرار ما حصل في فرنسا. كانت ذات توجه ليبرالي واضح معادٍ للطائفية والعقلية الإقطاعية القديمة والكهنوت. ومعلوم أن الأتراك قلدوها عندما أسسوا هم أيضاً جمعية «تركيا الفتاة». والعلاقة بين الأتراك والألمان قديمة تماماً كالعلاقة بين المغاربة بالمعنى الواسع للكلمة وفرنسا. وبعد أن استقر في باريس راح هاينه يلعب دور الوسيط الثقافي بين ألمانيا وفرنسا فقد عرّف الفرنسيين على الفكر الألماني وعرّف الألمان على التيارات الفكرية والأدبية الفرنسية. وهكذا أصبح جسراً ثقافياً بين البلدين والحضارتين. وهذا ما يفعله المثقفون العرب المقيمون في باريس أو لندن إلخ... فهم أيضاً جسر ثقافي بين لغتين وأدبين وعالمين... وما أجمل الجسور! ما أجمل التفاعل الإيجابي مع الحضارات والثقافات الأخرى. لماذا التقوقع على الذات؟ ولكن لا ينبغي أن نفقد خصوصيتنا أيضاً ونذوب في الآخرين. لا إفراط ولا تفريط.
وهكذا لعب دوراً إيجابياً في التقريب بين الشعوب الأوروبية التي كانت متعصبة قومياً آنذاك. وكثيراً ما كانت تخوض الحروب ضد بعضها بسبب هذه العصبيات القومية بين الفرنسيين والإنجليز والألمان... ومعلوم أنه ألّف كتاباً مهماً عن تاريخ الدين والفلسفة في ألمانيا لتعريف الفرنسيين بذلك. كما كتب العديد من المقالات عن الحياة الأدبية والمسرحية والسياسية الفرنسية لتعريف الألمان بها. والواقع أن هنرييش هاينه كان يمتلك كل المواهب التي تجعل من الإنسان كاتباً. فقد كان حساساً جداً، ملتهب المشاعر والأخيلة، بارعاً في أسلوب الكتابة. ويبدو أن أمه أثرت على طبيعته وتوجهاته. ومعلوم أنها كانت مثقفة تتقن عدة لغات كالفرنسية، والإنجليزية، واللاتينية، هذا بالإضافة إلى الألمانية بالطبع. وكانت متأثرة جداً بجان جاك روسو، وقد ربت ابنها على محبته. وهذا يعني أنها كانت أماً رائعة. فمن لا يحب جان جاك روسو، أعظم كاتب في العصور الحديثة؟
ألم يقل غوته: فولتير أغلق عصره، وأما روسو فقد دشن العصر الآخر؟ ألم يرثه هولدرلين بقصيدة عصماء؟ بالمناسبة: جنون هولدرلين وهو في عز الشباب ألا يعلو على كل شعر أو نثر؟ أليس الجنون بحد ذاته أعظم صرخة احتجاجية على خواء العالم؟...
ومن باريس كتب هاينه قصيدة حنين إلى ألمانيا يقول فيها:
«آه يا ألمانيا، يا حبي البعيد! عندما أفكر فيكِ تصعد الدموع إلى عيني، وفرنسا المرحة تبدو لي كئيبة. وشعبها اللطيف يبدو لي مزعجاً ثقيلاً. وحده الحس الصائب البارد والناشف يرين في باريس. آه يا أجراس الجنون! آه يا أجراس الإيمان. كم يبدو وقع رنينكما حلواً على قلبي!
يخيل لي أني أسمع من بعيد بوق الحارس الليلي. إنه لصوت أليف وحنون. أغاني الحارس الليلي تعبر المسافات حتى تصل إلى قلبي مختلطة بتغاريد العندليب».
هكذا نلاحظ أن هاينه لم يستطع أن ينسى ألمانيا رغم أنها أهانته وعذبته بل وطردته. فذكريات الطفولة والشباب الأول لا يمكن أن تنسى. والشاعر الغريب حتى ولو كان سعيداً في منفاه يظل غريباً فلا شيء يعوض عن الوطن إلا الوطن. ولكن الوطن الألماني في ذلك الزمان ما كان يرحب بكتابه وشعرائه. كان لا يزال مستبداً يكره المثقفين ويحارب ميلهم غير المفهوم للحرية والتنفس والانطلاق. وعدد المثقفين الألمان المنفيين كان كبيراً جداً آنذاك. ومعظمهم كان يتوجه إما إلى باريس، وإما إلى لندن.
وأكبر مثال على ذلك كارل ماركس الذي هرب إلى بروكسل وباريس أولاً قبل أن يستقر في لندن لاحقاً. ومعلوم أن ماركس كان أكبر «متسكع» في أوروبا كما تقول الكاتبة فرانسواز جيرو.
كتب هاينه مرة إلى أحد أصدقائه يقول: «كنت مريضاً وتعيساً لفترة طويلة من حياتي. ولكني الآن لم أعد كذلك. أو قل إني مريض وتعيس إلى حد النصف فقط. وربما كانت هذه الحالة تمثل أقصى ما يمكن من السعادة على هذه الأرض. فلا يمكن أن نطلب من الحياة أكثر مما تستطيع».
كان هنرييش هاينه ينتمي إلى جيل الاحتراق والعبور: أي الجيل الذي عمل من أجل التنوير والتغيير. ولكن لم يتح له القدر أن يكحل عينه به، لم يعش الوقت الكافي لكي يستمتع به ويقطف ثماره. وأعتقد أن هذه هي حالتنا نحن المثقفين العرب. وقد صدرت عنه هذه العبارة العميقة وشديدة الدلالة في المقارنة بين الفرنسيين والألمان. قال إن الألمان أحدثوا الثورة الكبرى على المستوى الفلسفي ضد العهد الاقطاعي الأصولي اللاهوتي القديم. وقد تم ذلك على يد كانط وفيخته وهيغل. وهذا هو مغزى الفلسفة المثالية الألمانية التي هي أكبر فلسفة في العصور الحديثة. أما الفرنسيون فقد أحدثوا الثورة ضد هذا العهد القديم بالذات على المستوى السياسي عندما اندلعت الثورة الفرنسية. وهي أكبر زلزال حصل في تاريخ العصور الحديثة. وبالتالي فهما ثورتان متكاملتان: ثورة الفكر، وثورة السياسة. الأولى للألمان والثانية للفرنسيين.
ولكن الأمور أكثر تعقيداً من ذلك. فالفرنسيون أحدثوا أيضا ثورة فكرية قبل أن يحدثوا ثورة سياسية. وإلا فما معنى فولتير وديدرو وجان جاك روسو؟

من شعره

مقطع صغير

كل تعاستي وآلامي
وضعتها في هذا الكتاب
وعندما تفتحونه
سوف تقرأون في قلبي

ربيع جديد

سوف أتغلغل بين الأزهار
وأنا أيضا سأتفتح
سأتغلغل كالأحلام
وأترنح في كل خطوة
آه! أمسكيني يا حبيبتي
لكيلا أسقط كالسكران
على قدميك
والحديقة ملأى بالناس

من أقوال هاينه

حب جنوني: كلام فارغ. هل يمكن للحب أن يكون إلا جنونا؟
المؤرخ هو نبي ينظر إلى الخلف!
المجد للأجيال القادمة: سوف تكون أجمل منا وأكثر سعادة
الخبرة مدرسة جيدة ولكنها تكلف غالياً
ينبغي أن نغفر لأعدائنا، لكن ليس قبل أن نراهم مشنوقين!