إطلاق ترمب منصته قد يعزز التيارات اليمينية الأنشط في «التواصل الاجتماعي»

حتى من قبل «غياب» الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عن عناوين الأخبار اليومية، كثيراً ما توقع الصحافيون الأميركيون، ومعهم وسائل الإعلام ومراكز الإحصاء، دخول صناعة الإعلام ومهنة الصحافة في ركود كبير. وكما طرق الزعيم السوفياتي الراحل نيكيتا خروتشوف بحذائه على منبر الأمم المتحدة في خمسينيات القرن الماضي، وهو المعروف بسلوكه غير المألوف، مستقطبا عدسات المصورين ومقالات الكتاب، تحولت «تغريدات» ترمب وتصريحاته إلى ظاهرة، قد يكون من الصعب تعويضها، لما أنتجته من أرقام في بورصة المشاهدات والقراءات ودخول المواقع الإخبارية وتسجيل الاشتراكات الجديدة.

صحيح أن البعض تندر بأن «منسوب التوتر» تراجع لديهم إثر حجب تغريداته عن «تويتر». إلا أن «متلازمة ترمب» كانت أساسية، إذ عبر آخرون عن خشية حقيقية من «تراجع الأعمال» وكسادها بسبب غيابه.
عام 2017 قال ترمب «الصحف والتلفزيون وجميع أشكال وسائل الإعلام ستنهار إذا لم أكن هناك، لأنه بدوني، فإن تصنيفاتهم وأعمالهم ستتدهور». وبالفعل سجلت شركة «كوم سكور» المتخصصة في تتبع حركة الدخول على المواقع والمنصات الإخبارية، انخفاضاً كبيراً في عدد القراء والمتابعين، طالت معظم الصحف ومحطات التلفزيون الأميركية ومنصات التواصل الاجتماعي. وكانت في طليعة المتضررين صحف مثل «الواشنطن بوست» و«النيويورك تايمز» ومحطات «السي إن إن» و«الإم إس إن بي سي» التلفزيونية، في حين استعادت «فوكس نيوز» بعض جمهورها رغم استمرار تراجع عدد مشاهديها قياساً لأرقام العام الماضي.
لقد انخفض عدد متصفحي «الواشنطن بوست» بنسبة 26 في المائة من يناير (كانون الثاني) إلى فبراير (شباط) الماضيين، و7 في المائة مقارنة بالعام الماضي. في حين خسرت «النيويورك تايمز» 17 في المائة مقارنة بشهر يناير و16 في المائة مقارنة بشهر فبراير الماضي. وفقدت «السي إن إن» 45 في المائة من جمهورها في أوقات الذروة خلال الشهرين الماضيين، بينما انخفض جمهور «الإم إس إن بي سي» بنسبة 26 في المائة، مقابل استعادة «فوكس نيوز» - أكثر الشبكات تأييدا لترمب - جمهورها لكن تصنيفها انخفض 6 في المائة عن الفترة نفسها.

عام استثنائي
لا شك في أن عام 2020 كان استثنائياً بأحداثه، من جائحة «كوفيد - 19» والانهيارات الاقتصادية الأميركية والعالمية، إلى الاحتجاجات العرقية وانتخابات الرئاسة الأميركية، وما تلاها من توتر توج باقتحام الكابيتول. وكل هذه تطورات استفادت منها وسائل الإعلام بشكل كبير، ما دفع الناس إلى متابعة نشرات الأخبار واستخدام أجهزة الكومبيوتر والهواتف الجوالة بشكل غير مسبوق.
لكن رغم ذلك، هناك إجماع على أن المؤسسات الإخبارية استفادت كثيرا من «تأثير ترمب» حتى من قبل ظهور الجائحة. وبحسب إحصاءات متخصصة، اجتذبت محطات «الكيبل» الرئيسة الثلاث، «السي إن إن» و«الإم إس إن بي سي» و«فوكس نيوز»، عام 2014 - أي قبل سنة من إعلان ترمب ترشحه للرئاسة - مجتمعة ما معدله 2.8 مليون مشاهد في الليلة خلال ساعات الذروة. ولكن بحلول عام 2019، وهو العام الثالث لترمب في منصبه، ارتفع هذا الرقم تقريباً إلى 5.3 مليون.
من الذي سيملأ الفراغ بعد ترمب؟ سؤال طرحه العديد من المسؤولين التنفيذيين في مؤسسات إعلامية أميركية. وهؤلاء، رغم إجماعهم على الحاجة إلى «فترة هدوء» لمراجعة الأخطاء التي ارتكبت، واتهام وسائل الإعلام بالهوس بكل الأشياء التي فعلها ترمب، يرون أن صناعة الإعلام لا ترحم في قطاع يقوم على استثمارات القطاع الخاص، وليس على دعم الحكومات.
مع هذا، فإن واقع الحال قد يتغير مرة أخرى. ومع تصريح ترمب لمحطة «فوكس نيوز» بأنه عازم على إطلاق منصته الخاصة بعد شهرين أو ثلاثة، يتوقع المراقبون اندلاع «سباق إعلامي» جديد، من شأنه أن يفتح تنافساً محموماً قد تشمل ساحاته شبكات الأخبار والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، سواءً لمواكبة تصريحاته أو للرد عليها.
حتى الآن لم تعرف بعد تفاصيل خططه لإطلاق منصته وكيف سيجري تحميلها، سواءً على الهواتف الجوالة أو الأجهزة اللوحية والكومبيوترات المحمولة.
هل ستكون منصة مستقلة بذاتها من دون الحاجة لمتاجر التطبيقات، مثل «آبل» و«غوغل» أو «أندرويد»؟ أم أنها ستكون ملزمة باحترام «قواعد وقوانين» تلك المتاجر، ما يساويها بتطبيقات منصات يمينية متطرفة كمنصة «بارلير» التي خضعت لقوانين متاجر التطبيقات؟
جايسون ميلر، كبير مستشاري ترمب، أبلغ «فوكس نيوز» أيضاً، أن الرئيس السابق سيعود إلى وسائل التواصل الاجتماعي «في غضون شهرين أو ثلاثة على الأرجح»، غير أنه لم يقدم أي شرح لكيفية «استعادة تعريف اللعبة بالكامل التي ينتظرها الجميع ليروا ما الذي سيفعله الرئيس ترمب بالضبط». وأضاف ميلر أن عودة ترمب ستكون من خلال «منصته الخاصة» التي ستجذب «عشرات الملايين» من المستخدمين الجدد... و«هذا شيء أعتقد أنه سيكون أهم تذكرة في وسائل التواصل الاجتماعي»، على حد قوله.
ترمب، كما هو معروف، لم يخف نيته أبدا الترشح مجدداً لمنصب الرئاسة، أو على الأقل الاستمرار في لعب دور سياسي. ولذا لا تنفك تصريحاته تثير الكثير من الجدل، داخل حزبه الجمهوري وخارجه. كذلك لا يخفى تأثيره على التيارات اليمينية المتطرفة التي لا تزال نشاطات بعض أجنحتها تفرض حضوراً أمنياً استثنائياً في محيط مبنى الكابيتول، ناهيك من التحذيرات التي أجبرت البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) على إطلاق مراجعة شاملة لأفراد الجيش الأميركي، تخوفاً من جماعات اليمين المتطرف، كجماعة «كيو آنون» و«براود بويز»، بعد ثبوت مشاركة عدد كبير من العسكريين المتقاعدين من المنتمين لتلك الجماعات، في اقتحام الكابيتول يوم 6 يناير الماضي.
وتشير دراسات وإحصاءات إلى أن مواقع اليميني المتطرف التي تروج الأخبار المضخمة أو المضللة، تشهد نمواً كبيراً، قياساً إلى بقية المواقع. إذ وجد باحثون في «مركز الأمن السيبراني» أن مواقع المحتوى اليميني المتطرف واليسار المتطرف، ولدت مستويات تفاعل أعلى لدى تلك المجموعات الحزبية، منها في المجموعات الأخرى. ونشرت صحيفة «الواشنطن بوست» جزءا من دراسة أكبر، قالت إن معديها ارتأوا نشرها مسبقاً قبل صدورها كاملة، أظهرت أن التفاعل بلغ ذروته يوم الانتخابات ويوم اقتحام الكابيتول. ومع ذلك تقول الدراسة إن التفاعل مع المحتوى اليميني المتطرف كان أكثر كثافة من كل مصادر الأخبار الأخرى. وكان المحتوى من المصادر التي تنشر معلومات مضللة أكثر جاذبية من المحتوى من المصادر الموثوقة.
قد تكون استنتاجات الدراسة مزعجة لكنها غير مفاجئة. إذ ازداد انتشار الأخبار الكاذبة مع نمو منصات التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي تحاول بعض شبكات التواصل الاجتماعي التهرب من المسؤولية عما يجري نشره من أخبار ومعلومات على صفحاتها، ومحاولة إضفاء صفة «الأمن والأمان» على ما يصار إلى ترويجه. ولنا دليل في الدعوة القضائية غير المسبوقة التي رفعتها منظمة «مراسلون بلا حدود» في فرنسا ضد شركة «فيسبوك»، متهمة إياها بممارسة تجارية مخادعة. وقالت المنظمة في بيان إن منصة فيسبوك «لم تف بوعدها توفير خدمة آمنة خالية من خطاب الكراهية والمعلومات الخاطئة على صفحاتها»، ما قد يحول القضية إلى معيار دولي لمقاضاة فيسبوك إذا ربحتها.
ثم يقول باحثو الدراسة، «نميل إلى البحث عن معلومات تؤكد أفكارنا، وبما أن خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، تتعقب ما يحبه الشخص وتضعه أمامه، فهذا كفيل بزيادة ميولنا الطبيعية سوءاً». ويعد دراستهم لصفحة واحدة على «فيسبوك» يتابعها أكثر من 100 شخص وأكثر من 2900 مصدر إخباري، خلص الفريق إلى أن المصادر اليمينية المتطرفة المصنفة كناشر للمعلومات المضللة بلغ متوسطها 426 تفاعلا لكل ألف متابع في الأسبوع مقارنة بمتوسط 259 تفاعلاً من «مصادر غير مضللة».
«فيسبوك»، من جانبها، أوضحت أن التقرير يبحث في الغالب في كيفية تفاعل الأشخاص مع المحتوى، والذي لا ينبغي الخلط بينه وبين عدد الأشخاص الذين يشاهدونه بالفعل على منصتها. وتابعت «عندما تنظر إلى المحتوى الذي يحصل على أكبر قدر من المتابعة عبر فيسبوك، فإنه ليس حزبياً على الإطلاق كما تشير هذه الدراسة». في المقابل، وجدت دراسة أجريت عام 2014 أن الليبراليين يفكرون بشكل تحليلي أكثر من المعتدلين أو المحافظين، وأن تدريب الناس لفترة وجيزة على التفكير التحليلي دفعهم إلى تطوير آراء أكثر ليبرالية.
يبقى القول إن النقاش مفتوح، بانتظار «عودة ترمب» إلى منصات التواصل الاجتماعي، وما ستثيره من تداعيات داخل الولايات المتحدة وخارجها، وأغلب الظن أنه سيكون لنتائجها تأثير بالغ سياسياً وإعلامياً.