«أم القمم» الأوروبية تتعثر بين آمال الجنوب وشروط الشمال

لم يبخل القادة الأوروبيون منذ أيام في استخدام أفعال التفضيل لوصف القمة الأوروبية التي بدأت أمس (الجمعة) في بروكسل. من القمـة الأهم في تاريخ الاتحاد، إلى قمة الحسم التي يتوقف عليها مستقبل المشروع الأوروبي برمته، وحتى «أم القمم» كما وصفها المستشار الاقتصادي لأنجيلا ميركل عشية انعقادها في مبنى «أوروبا» للمرة الأولى منذ خمسة أشهر.
إنها معركة مفتوحة على جبهات ومستويات عدة حول أكبر حزمة مالية في تاريخ الاتحاد، هدفها إنهاض الاقتصاد الأوروبي من تداعيات الإغماء الذي أصابه طوال ثلاثة أشهر بسبب من جائحة «كوفيد - 19»، وتدور رحاها منذ أسابيع حول هولندا، البلد الوحيد الذي ما زال يحمل مطالب مرفوضة كلياً من بقية الشركاء.
رئيس الوزراء الهولندي مارك روته، الذي يحكم بلاده منذ عشر سنوات على توازن برلماني ضعيف مهدد باستمرار بصعود اليمين المتطرف، جاء مستعداً للمعركة التي يتوقف عليها مستقبله السياسي ومدركاً أنه العقبة الوحيدة المتبقية أمام الاتفاق النهائي حول حزمة الإنقاذ من الجائحة. هذا لا يعني أن ثمة توافقاً حول كل شيء بين الآخرين، لكن الشروط التي تصر عليها هولندا هي الوحيدة التي تتجاوز كل الخطوط الحمر التي وضعتها الأطراف الأخرى.
تبدو المعركة في ظاهرها محصورة بين هولندا وإيطاليا التي ترفض بشكل قاطع المطلب الهولندي بإخضاع خطط الإصلاح الوطنية، التي على أساسها تحصل الدول المتضررة من «كوفيد - 19» على المساعدات والقروض، لموافقة الدول الأعضاء ومراقبتها، وهو مطلب مرفوض أيضا من ألمانيا وفرنسا لتعارضه مع القواعد المرعية في الاتحاد. حجة روته هي أن البرلمان الهولندي لن يوافق على أي خطة من غير ضمانات بأن المساعدات والقروض ستُنفق على القطاعات التي تضررت من الوباء.
إيطاليا من جهتها تصر على أن تكون المفوضية هي وحدها المخولة الإشراف على مراقبة الإنفاق، وتهدد باستخدام حق النقض لمنع الموافقة على موازنة الاتحاد للسنوات السبع المقبلة. لكن الدلائل تشير إلى أنها قد تبقى وحيدة في هذا الخندق، بعد أن ألمحت إسبانيا والبرتغال إلى عدم استعدادهما للذهاب في هذا الاتجاه.
وكان لافتاً أن رئيس الوزراء الإيطالي جيوزيبي كونتي، الذي يواجه وضعاً سياسيا معقداً في الداخل ويسعى بأي ثمن لعدم العودة خاوي الوفاض من بروكسل، قد اتصل ليل الخميس برئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي يواجه معركة أيضا مع هولندا التي تشترط احترام سيادة القانون في الدول التي تريد الحصول على مساعدات من الاتحاد. ولا يستبعد المراقبون أن يلجأ كونتي إلى استخدام ورقة التحالف مع أوربان لتضييق الحصار على رئيس الوزراء الهولندي، رغم التحذيرات العديدة من عواقب مثل هذا الرهان.
وتكمن الصعوبة الكبرى لإنجاز هذه المفاوضات فيما تحمله من رهانات فردية وجماعية عالية على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وفي خشية الجميع من تداعيات فشلها على المشروع الأوروبي.
إيطاليا وإسبانيا والبرتغال تعرف أنه من غير صندوق الإنقاذ لن تقوم قائمة في المدى المنظور لاقتصاداتها التي أشرفت على الانهيار بسبب الأزمة والشلل الطويل الذي أصابها، والمستشارة الألمانية حريصة على إنجاز هذا الملف بسرعة قبل أن يُغرق رئاستها الدورية للاتحاد في متاهات تمنعها من الانصراف للأهداف الأخرى، ورئيس الوزراء الهولندي المحاصر يواجه معضلة الإصرار على شروطه وتحمل مسؤولية عدم الموافقة على الموازنة الأوروبية، أو القبول باقتراح المفوضية لصندوق الإنقاذ وشروطه والعودة إلى بلاده لمواجهة تمرد في البرلمان قد يقضي على حكومته.
رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال الذي لم يهدأ في اتصالاته ومفاوضاته الثنائية منذ أيام، حاول في افتتاح القمة أن يمهد للطريق التي يأمل في أن تؤدي إلى اتفاق. وقال: «إذا لم نتمكن بسرعة من إصلاح الضرر الذي خلفه الوباء، فإن التداعيات المأساوية لن تقتصر على المناطق الأكثر تضرراً، بل ستشمل أوروبا بكاملها. فالازدهار الأوروبي يتغذى من السوق الموحدة كما يعرف الجميع».
المؤسسات الأوروبية الأخرى لوحت أيضا بشبح الأزمة المالية في محاولة لدفع هولندا إلى تليين موقفها، وذكرت بأن أسواق المال سلمت منذ فترة بإنشاء صندوق الإنقاذ، وأن المصرف المركزي الأوروبي يخشى أن يؤدي فشل القمة إلى تعكير الهدوء الذي يسود الأسواق المالية الأوروبية والدخول في مرحلة جديدة من الاضطرابات. وانضمت إلى هذه التحذيرات رئيسة المصرف المركزي كريستين لاغارد، التي قالت إنه «من الأهمية بمكان أن يتفق القادة الأوروبيون بسرعة حول حزمة طموحة للمساعدات»، وأعربت عن ارتياح المجلس الحاكم للمصرف للاقتراح الذي قدمته المفوضية تحت عنوان «أوروبا الجيل المقبل».
ويقول مصدر سياسي مخضرم مشارك في القمة إنه لم يشهد مفاوضات معقدة كهذه التي يجتمع حولها القادة الأوروبيون حاليا في بروكسل، ويتوقع أن تدوم القمة حتى غد الأحد، وربما استؤنفت بعد استراحة في الأسبوع المقبل، ويحذر من الصدام المباشر في مراحلها الأولى، ما قد يؤدي إلى انحرافها عن الأهداف الكبرى والاتجاه نحو المساومات الصغيرة التي تطول حتى نهاية الصيف.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي تستعد لإنهاء مسيرتها السياسية الطويلة كلاعبة رئيسية على المسرح الأوروبي، ألمحت إلى الاتجاه الذي تنوي الدفع نحوه في هذه القمة، عندما قالت إن جائحة «كوفيد - 19» جعلتنا ندرك أن الأزمات الصحية والكوارث البيئية والفوارق الهيكلية لا تقف عند الحدود الوطنية للدول، وأن القرارات الكبرى التي ينتظرها الأوروبيون لا يمكن أن تقتصر على المعادلات الحسابية والموازنة بين الخسائر والأرباح، خاصة عندما يكون الهدف إرساء القواعد اللازمة لديمومة المشروع الأوروبي.
الكعكة المالية المطروحة على مائدة «أم القمم» الأوروبية (ألف مليار يورو لموازنة السنوات السبع المقبلة و750 مليار لصندوق الإنقاذ) هي من الضخامة بحيث يصعب التخيل أنها لا تكفي لإرضاء جميع الفرقاء، أو لعل ضخامتها هي السبب في صعوبة التوصل إلى اتفاق.