إيطاليا تنزع عنها رداء الخوف من الوباء

يكفي أن تجلس وراء طاولة صغيرة في أحد المقاهي التي تزنّر ميدان غاريبالدي في وسط نابولي، لتدرك أن الحياة عادت إلى عاصمة الجنوب الإيطالي التي كانت، إلى جانب لندن وباريس، زهرة المدائن الأوروبية حتى أواسط القرن التاسع عشر، وأصبحت اليوم مدينة لا تدخل الشرطة بعض أحيائها إلا بحماية القوات المسلحة. عادت زحمة السير الخانقة إلى الشوارع وعادت حناجر الباعة تصدح بهتافات مرنمة في أسواق الخضراوات والفاكهة كما لو أن ما حصل خلال الأشهر الأربعة المنصرمة ما كان إلا كابوساً اندثر مع حلول الصيف.
لا أثر بعد للسياح الذين يتهافتون عادة طوال العام على هذه المدينة، وينطلقون منها إلى المناطق الساحرة المحيطة بها. لكن نابولي، كغيرها من مدن الجنوب الأخرى، قررت أن تنفض عنها رداء الخوف الذي تسربلت به إيطاليا طوال أزمة الوباء، ونزعت عن وجهها الكمامات وعادت إلى التقارب الاجتماعي كما حصل منذ أيام عندما فاز فريق المدينة بالبطولة الوطنية لكرة القدم وتدافعت جماهيره بالآلاف تحتفل في الشوارع والساحات بلا وقاية أو تباعد. السلطات الصحية تقول، إن الوضع ما زال تحت السيطرة، وأرقام الإصابات الجديدة والوفيات إلى تراجع في كل الأقاليم. لكن ثمة أرقاماً أخرى بدأت تثير القلق في أوساط اللجنة العلمية التي تشرف على إدارة أزمة الوباء، مثل المخالفات لتدابير تنظيم التجمعات والحفلات العامة التي تضاعفت سبع مرات منذ رفع الحظر مطلع هذا الشهر، وانخفاض مبيعات الكمامات بنسبة 80 في المائة مقارنة بما كانت قد وصلت إليه في ذروة الوباء، إضافة إلى ازدياد الإقبال على المحلات التجارية مع تراجع كبير في نسبة التجارة الإلكترونية.
في مقهى «غامبرينوس» الشهير، الذي كان يرتاده أوسكار وايلد خلال إقامته في نابولي، لا أثر للكمامات على الإطلاق ولا تباعد بين الزبائن الموزعين مجموعات في قاعته الفسيحة. يتحدث مدير المقهى عن السبب، فيقول «نابولي من المدن التي سجلت نسبة متدنية جداً من الإصابات منذ بداية الوباء، والوفيات التي تخافها الناس اليوم هي التي قد تنجم عن انهيار السياحة وإقفال المؤسسات، وارتفاع نسبة البطالة التي هي الأعلى في إيطاليا». المشهد نفسه يتكرر في المحلات التجارية والفنادق التي تنتظر بفارغ الصبر عودة النشاط إلى الحركة الاقتصادية بعد أشهر من الإغلاق.
معدلات انتشار الوباء وأرقام الإصابات والوفيات شطرت إيطاليا إلى اثنتين منذ بداية الأزمة. في الشمال، تضاعفت نسبة الوفيات وتجاوزت 560 في المائة في بعض الأماكن مثل بيرغامو، لكن في الجنوب لم تسجل هذه النسبة أي ارتفاع ملحوظ، بل تراجعت في بعض المناطق مثل روما مقارنة مع العام الماضي.
السلطات الصحية الإيطالية قلقة من التطورات الأخيرة بعد ظهور بؤر جديدة للوباء في مناطق كانت خالية من الإصابات حتى الآن، وتخشى من موجة جديدة بعد رفع تدابير العزل والتراخي العام في الالتزام بتوصيات الحذر والوقاية. وكان وزير الصحة روبرتو سيبرانزا قد حذر منذ يومين من أن مرسوم العودة إلى العزل التام جاهز على مائدة الحكومة لتوقيعه في أي لحظة إذا استمرت التجاوزات وظهرت بؤر جديدة للوباء، وقال «صحيح أن النظام الصحي اليوم أصبح جاهزاً لمواجهة موجة جديدة من الوباء، لكن على المواطنين أن يدركوا بأن الخطر ليس مقصوراً على منطقة أو دولة معينة. الفيروس ما زال ينتشر في جميع أنحاء العالم وأضراره مدمرة، ولا يوجد مكان واحد في منأى عنه». وكانت وزارة الصحة قد فرضت مؤخراً العزل التام على عدد من البلدات في إقليم «كالابريا» الجنوبي، وعلى اثنين من أحياء العاصمة روما بعد ظهور بؤر انتشار جديدة. ويقول وزير الشؤون الإقليمية فرنشيسكو بوتشيا، إن «الاجتماعات والحفلات الحاشدة التي شاهدناها في بعض المناطق هي صفعة إلى الطواقم الصحية وعائلات الضحايا الذين زاد عددهم على 34 الفاً».
وتزداد المخاوف من أن يؤدي فتح الحدود إلى قلب المعادلة الوبائية التي سادت حتى الآن بين الشمال والجنوب، بعد أن تبين أن معظم السياح الذين سيتوافدون على إيطاليا هذا الصيف سوف يختارون الأقاليم الجنوبية لتمضية إجازاتهم بعد أن ترسخ في أذهان الجميع ارتباط الوباء في إيطاليا بالمقاطعات الشمالية. ومع توقعات وزارة السياحة بأن يكون الموسم هذا العام مقصوراً بنسبة 90 في المائة على السياحة الداخلية، وأن يكون معظمها من أقاليم الشمال نحو المناطق الجنوبية، يدعو بعض المسؤولين في هذه الأخيرة إلى إخضاع الوافدين من الشمال لفحوص قبل السماح لهم بالدخول إلى الأماكن السياحية الجنوبية.