«الموزعون الصامتون» للفيروس... «كعب أخيل» جهود مكافحته

في حين أن كثيراً من الأشخاص الذين يصابون بعدوى فيروس «كورونا المستجد» ينتابهم السعال وارتفاع درجات الحرارة وفقدان التذوق والشم، لا يعاني آخرون من أي أعراض على الإطلاق، ولا يدركون أبداً أنهم يحملون الفيروس، وهؤلاء أشبه بـ«المادة المظلمة» من الكون، وهي المادة غير المرئية التي يعتقد أنها تشكل معظم المادة في الكون، ولم يتم تحديدها بعد.
وبينما تتخذ أغلب دول العالم مع تخفيف القيود بعض الإجراءات الوقائية في أماكن العمل ووسائل النقل ودور العبادة، مثل قياس درجة حرارة المترددين على هذه الأماكن، لتقصي أحد أهم أعراض الإصابة، وهي ارتفاع درجات الحرارة، لمنع المصابين المحتملين من الاختلاط مع الآخرين، فإن الخطورة الأكبر ربما تأتي من «الموزعين الصامتين» للفيروس.
ويحمل هؤلاء الأشخاص الفيروس، وينقلونه للآخرين بطرق أخرى غير السعال، وينقسمون لفئتين: فئة منهم تنشر الفيروس قبل أن تظهر عليها الأعراض، لكن هذه الأعراض تظهر عليهم لاحقاً، وفئة لا تظهر عليها الأعراض إطلاقاً، وتظل مستمرة في توزيع الفيروس على المجتمع.
يقول باحثون إنه «من المهم فهم عدد المتضررين من حمل هاتين الفئتين للفيروس، وكيف تساهمان في تغذية الوباء، حتى يمكن وضع الحلول التي يمكن أن تقي المجتمع منهما، بصفتهما (كعب أخيل) في مكافحة الوباء».
ويستخدم مصطلح «كعب أخيل» على نطاق واسع في الدراسات الطبية للإشارة إلى نقاط الضعف في بناء قوي، وهو مستمد من الأسطورة اليونانية القديمة التي تتحدث عن أم خافت على طفلها «أخيل» الذي تنبأ العرافون بموته في معركة، فقامت بتغطيسه في نهر يمنح القوة، ولكن بسبب حملها لطفلها من كعب قدمه، لم يصل الماء السحري لتلك المنطقة، فصارت أضعف نقطة في جسمه، فمات متأثراً بسهم مسموم في كعبه، رغم قوته.
ولم يجد العلماء من جامعة كاليفورنيا أفضل من هذا المصطلح لوصف خطورة الموزعين الصامتين، في تقرير نشرته شبكة «بي بي سي» البريطانية قبل يومين، قالوا فيه إن الطريقة الوحيدة لوقف انتشار المرض هي معرفة من هو المصاب، بغض النظر عما إذا كان يعتقد أنه مصاب أم لا.
ووثق الباحثون خلال دراسة «كوفيد-19» أكثر من واقعة، منها تلك التي حدثت في كنيسة بسنغافورة، حيث اجتمع الناس في الكنيسة يوم 19 يناير (كانون الثاني) مع زوجين كلاهما يبلغ من العمر 56 عاماً، وكانا قد وصلا للتو من الصين.
وحتى 22 يناير (كانون الثاني)، لم يظهر على الزوجين أي أعراض، لكنهما تسببا في نقل الفيروس إلى 3 أشخاص، قبل أن تبدأ أعراض المرض في الظهور على الزوجة يوم 22 يناير (كانون الثاني)، ثم الزوج يوم 24 يناير (كانون الثاني)، وكانت حالات الإصابة الثلاث هي الأولى في سنغافورة.
يقول الدكتور فيرنون لي، رئيس الأمراض المعدية في وزارة الصحة السنغافورية، في التقرير الذي نشرته شبكة «بي بي سي» إنهم تمكنوا في غضون أيام قليلة بعد التحدث مع ما لا يقل عن 191 من رواد الكنيسة من اكتشاف أن اثنين من السنغافوريين الذين أصيبوا بالعدوى كانوا في الصلاة نفسها مع الزوجين الصينيين، وكان بإمكانهم التحدث بعضهم مع بعض، وتحية بعضهم بعضاً، خلال الأنشطة المعتادة للكنيسة.
وإذا كان الزوجان مصدر العدوى في الحالة السنغافورية قد ظهرت عليهما الأعراض لاحقاً، فإن حالة الممرضة «أميليا باول» التي كانت تعمل في مستشفى أدينبروك في كامبريدج كانت محيرة للغاية. فقد أظهرت نتائج التحليل في أبريل (نيسان) أن أميليا كانت حاملة للفيروس، رغم أنها كانت تشعر بأنها طبيعية. وحتى بعد أن خضعت أميليا للعزل المنزلي، كانت المفاجأة أن أعراض المرض لم تظهر عليها إطلاقاً، إذ لم تشعر في أي لحظة بتوعك، حيث تقول: «لم يكن لدي أي شيء حرفياً، كنت أمارس الرياضة في الداخل، وأتناول الطعام بشكل طبيعي، وأنام بشكل طبيعي، ولكني كنت قلقه بشأن عدد الحالات التي يمكن أن تكون قد التقطت العدوى مني».
وكان قد تم الكشف عن إصابة أميليا فقط ضمن دراسة لجميع العاملين في المستشفى، وقد أسفرت عن نتيجة مدهشة، مفادها أن ما يصل إلى 3 في المائة من أكثر من ألف شخص كانوا إيجابيين، بينما لم تظهر عليهم أي أعراض في وقت الاختبار.
وتم العثور على نسبة أكبر من الحالات غير المصحوبة بأعراض على متن السفينة الشهيرة «أميرة الماس» السياحية التي كانت تبحر قبالة سواحل اليابان في وقت سابق من هذا العام، حيث وجد الباحثون أن ثلاثة أرباع الأشخاص الذين ثبتت إصابتهم بالإصابة على متن السفينة لم تظهر عليهم أعراض.
وفي دار للرعاية في ولاية واشنطن، كان أكثر من نصف النزلاء إيجابيين، ولكن لم يكن لديهم أي علامة على المرض. ويشير تحليل أجراه د. كارل هينيغان من جامعة أكسفورد، وزملاؤه الذين نظروا في 21 مشروعاً بحثياً، أن عدد الحالات التي تكون مصابة دون أعراض تتراوح من 5 في المائة إلى 80 في المائة من الحالات.
وقالوا إن النتيجة أنه «لا توجد دراسة واحدة موثوقة لتحديد عدد الإصابة التي لا تطور أي أعراض للمرض»، وأضافوا أنه إذا تم إجراء فحص للفيروس فقط على الأشخاص الذين يعانون من الأعراض، والذين كانوا محور التركيز الرئيسي لسياسة الاختبار في المملكة المتحدة، فسيتم تفويت كثير من الحالات.
ويعتقد د. محمد عواد، استشاري الأمراض الصدرية بوزارة الصحة المصرية، أن أحد الاحتمالات لكيفية نقل هؤلاء المرضي الذين لا تظهر عليهم أعراض للعدوى، أن التنفس أو التحدث مع شخص ما يمكنه القيام بهذه المهمة.
ويقول عواد لـ«الشرق الأوسط»: «الفيروس يتكاثر في الجهاز التنفسي العلوي، ومن المحتمل أن يظهر بعضه مع كل زفير، ويمكن لأي شخص قريب بما فيه الكفاية، خاصة في الأماكن المغلقة، التقاطه بسهولة».
ويضيف: «هناك شكل محتمل آخر للإصابة عن طريق اللمس، حيث يصل الفيروس إلى يد شخص ما، ويلمس مقبض باب أو مقعد للجلوس».
ويشير عواد إلى أن مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها في أميركا قالت في أحدث توصياتها إن «الأسطح الملوثة تبقى مصدراً للخطر، ولكنها أقل بكثير من احتمالات العدوى عن طريق الاتصال مع شخص مصاب، سواء كانت تظهر عليه الأعراض أم لا».
ومع تخفيف إجراءات الإغلاق، وبدء مزيد من الأشخاص في استخدام وسائل النقل العام، أو العودة إلى العمل أو الذهاب للتسوق، فإن التعامل مع المخاطر غير المرئية أصبح مهماً أكثر من أي وقت مضى. يقول عواد: «ليس أمامنا من وسيلة للمواجهة سوى التشدد في تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي».