التجربة السويدية بين حذر الجيران واهتمام منظمة الصحة العالمية

بعد أسابيع من استقطابها الإعجاب والريبة بتجربتها الفريدة في مواجهة «كوفيد- 19»، استفاقت السويد يوم الخميس الماضي على نبأ صعودها إلى المرتبة الأولى في أوروبا من حيث نسبة الوفيات الناجمة عن الوباء مقارنة بعدد السكان (6.5 لكل مليون نسمة)، خلال الأيام السبعة المنصرمة. وكان العدد الإجمالي للوفيات قد زاد عن 3800، متجاوزاً بكثير أرقام البلدان الاسكندنافية المجاورة: النرويج (234)، وفنلندا (304)، والدنمارك (554)، وآيسلندا (10)؛ لكن بعيداً جداً عن أرقام بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا.
رئيس الوزراء السويدي ستيفان لوفين، وصف استراتيجية بلاده لمواجهة فيروس «كورونا» بأنها «ماراثون»، الهدف منه هو عدم اللجوء إلى العزل التام ومواصلة الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، مع تدابير خفيفة للوقاية والتباعد، والاعتماد على روح المسؤولية الفردية العالية للمواطنين، كحليف أساسي لمكافحة الفيروس.
وبينما ينظر العالم، وبخاصة البلدان المجاورة، بتحفظ وريبة إلى التجربة السويدية، قال أمس كبير خبراء منظمة الصحة العالمية، ومدير برنامج الطوارئ الصحية مايك راين: «ما زال الوقت مبكراً لاستخلاص العبرة النهائية من التجربة السويدية؛ لكنها تحمل دروساً يمكن الاستفادة منها، وقد تكون هي السبيل إلى الوضع الطبيعي الجديد الذي نسير نحوه».
تميزت التجربة السويدية عن تجارب جيرانها في المحيط الأوروبي منذ بداية الأزمة، باتباع استراتيجية في الاتجاه المعاكس تماماً، تقوم على مبدأ «السماح» للفيروس بالانتشار بين السكان؛ لكن ببطء يحول دون انهيار النظام الصحي، أو عجزه عن استيعاب الإصابات ومعالجة الحالات الخطرة، والوصول التدريجي إلى «مناعة القطيع» التي ما زالت آراء الخبراء منقسمة حولها.
أما الرجل الذي يقف وراء هذه الاستراتيجية التي تثير الإعجاب بقدر ما تثير التحفظ والتساؤلات، فهو عالم الوبائيات السويدي الشهير آنغلز تغنيل، الذي يرأس وكالة الصحة العامة المستقلة عن الحكومة التي تعمل بتوصياتها وتوجيهاتها. وهو يصر على أن نجاح استراتيجية مكافحة الوباء تعتمد بشكل أولي على متانة النظام الصحي، وقدرته على الصمود لفترة طويلة، مع توفير عناية عالية الجودة، وعدم اتخاذ قرارات لتحقيق أهداف قصيرة الأمد.
لكن منتقدي هذه الاستراتيجية الذين يزداد عددهم كل يوم داخل السويد، يقولون إن عدد الوفيات حتى الآن يضاعف خمس مرات الوفيات في الدنمارك المجاورة، وأن هذا الماراثون ما زال في بدايته المفتوحة على أسئلة واحتمالات كثيرة مجهولة المعالم.
منظمة الصحة العالمية من جهتها تفتح الباب واسعاً لمراقبة التجربة السويدية ودراستها، ويقول خبراؤها إن السويد قد تكون البلد الأكثر استعداداً لمرحلة الوضع الطبيعي الجديد، الذي يفرض التباعد الاجتماعي في المقاهي والمطاعم والمدارس والمتاجر والمصانع لفترة طويلة، حتى القضاء نهائياً على الوباء.
ومن جهة أخرى، يرى خبراء أن الحالة السويدية لا تستقيم مقارنتها بالبلدان الأخرى؛ لأن الكثافة السكانية في السويد متدنية جداً (25 نسمة في الكيلومتر المربع، مقابل 234 في ألمانيا)، وفيها نسبة عالية من السكان يعيشون وحدهم، كما أن مستويات الإصابات بأمراض مثل السكري والسمنة منخفضة جداً، قياساً بدول أخرى من المستوى الإنمائي نفسه، ما يجعل من السويد حالة فريدة قادرة على التعايش بشكل طبيعي مع هذا الوضع الجديد.
وكانت وكالة الصحة العامة السويدية قد أوضحت منذ بداية الأزمة، أنها لن تعتمد إجراءات قصيرة الأمد كتلك التي سارعت إليها الدول الأوروبية الأخرى التي فرضت العزل التام، والوقف الشامل للحركة الاقتصادية والصناعية، وذلك لاعتبارها أن السكان لا يمكن أن يتحملوا مثل هذه التدابير المكلفة نفسياً واقتصادياً لفترة طويلة.
وفي دراسة أجراها مركز الدراسات الاسكندنافية في جامعة هلسنكي، ثمة بوادر بدأت تظهر مؤخراً تشير إلى اتجاه بلدان مثل فنلندا والنرويج والدنمارك وآيسلندا نحو التماهي تدريجياً مع النمط السويدي الجديد، لاستئناف الأنشطة الاجتماعية والتجارية والترفيهية. لكن رغم أن النرويج والدنمارك وفنلندا تتصدر البلدان الأوروبية من حيث الانفتاح والعودة التدريجية إلى الحياة الطبيعية، فهي ما زالت تنظر بريبة وحذر إلى التجربة السويدية وأعلنت أنها ستبقي حدودها معلقة مع السويد، وذلك للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. ويرى البعض أن هذا القرار ينال من سمعة المجموعة الاسكندنافية، ويؤشر إلى أن العالم قد يكون في طريق العودة من العولمة إلى الانكفاء.
وإذا كان من السابق لأوانه الحكم على هذه الاستراتيجية السويدية من حيث نتائجها على الصعيد الصحي، فإن تداعياتها الاقتصادية هي أيضاً موضع تساؤل وتشكيك في نجاعتها. ورغم أن إجمالي الناتج المحلي تراجع بنسبة 0.3 في المائة خلال الفصل الأول من هذا العام، مقابل 8.3 في المائة في منطقة اليورو، فإن المصرف المركزي السويدي يتوقع تراجعاً بين 7 في المائة و10 في المائة في نهاية العام، مقابل 7.5 في المائة في الاتحاد الأوروبي. ومن المنتظر أن ترتفع البطالة بنسبة 6.8 في المائة لتصل إلى مستوى قياسي تاريخي يتجاوز 10 في المائة؛ خصوصاً أن الاقتصاد السويدي يعتمد بشكل أساسي على الصادرات الصناعية الثقيلة.