ماكرون يعرض عقيدته النووية

مع خروج بريطانيا في 31 يناير (كانون الثاني) الماضي، بقيت فرنسا الدولة النووية الوحيدة داخل الاتحاد الأوروبي، وفي ظل التغيرات الاستراتيجية المتمثلة بتخلي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا عن اتفاقية الحد من انتشار الصواريخ النووية متوسطة المدى وقرب انتهاء معاهدة «نيوستارت» للصواريخ النووية الاستراتيجية، وانطلاق ما يمكن اعتباره سباقاً للتسلح النووي بين هاتين القوتين، إضافة إلى الصين، كان على الرئيس الفرنسي أن يحدد «العقيدة» النووية الفرنسية وموقع الأوروبيين منها ودورهم في عالم متغير. وهذا ما فعله إيمانويل ماكرون، أمس، في خطاب دام 75 دقيقة في المدرسة الحربية، بحضور وزيري الخارجية والدفاع وكثير من الملحقين العسكريين في باريس وكبار ضباط الجيش الفرنسي.
بداية، تعد باريس قوة نووية «متوسطة» إذ إنها تمتلك، وفق ما أكده ماكرون نفسه، نحو 300 رأس نووي، مقارنة بالترسانة النووية الروسية «6500» والأميركية «6185» بحيث إن موسكو وواشنطن تمتلكان وحدهما ما نسبته 91 في المائة من الرؤوس النوية عبر العالم. لكن فرنسا تسبق الصين «290» وبريطانيا «200» وباكستان «160» والهند «140» وإسرائيل «90» وكوريا الشمالية «ما بين 20 و30 رأس».
وتعتمد قوة الردع النووية الفرنسية على مكونين؛ بحري، ويسمى «القوة البحرية الاستراتيجية» وتتشكل من 4 غواصات ذات دفع نووي، قاذفة الصواريخ، وهي توفر ما يعد «الضربة الثانية»، وجوي ويسمى «القوة الجوية الاستراتيجية» وقوامها طائرات ميراج ورافال الموجودة على ظهر حاملة الطائرات «شارل ديغول» ذات الدفع النووي، وهي الوحيدة التي تمتلكها فرنسا. وفي العام 1996 قررت باريس التخلي عن مكون ثالث لقدراتها النووية الرادعة، وهي الصواريخ الباليستية عابرة القارات التي كانت مخزنة في مواقع ثابتة تحت الأرض. وكما بقية القوى النووية، فإن باريس تعمل على تحديث قوتها الضاربة، ومنها بناء جيل جديد «ثالث» من الغواصات النووية. ورصدت الحكومة مبلغ 37 مليار يورو للسنوات 2019 - 2025 ما يساوي 12.5 في المائة من ميزانيتها الدفاعية لهذه السنوات. وإذا كانت باريس تبذل جهداً كبيراً من أجل قوتها النووية فلأنها تعتبرها أساس استراتيجيتها الدفاعية والضمانة الكبرى لمصالحها الوطنية. ومنذ أن أصبحت القوة النووية الرابعة (بعد الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا)، فإن باريس حريصة على استقلالية قرارها النووي. والحال أن التحولات الأخيرة كالعلاقات المتقلبة مع واشنطن في إطار الحلف الأطلسي وموت اتفاقية الصواريخ متوسطة المدى التي تهم أوروبا بالدرجة الأولى ونهاية العمل العام المقبل باتفاقية الصواريخ الاستراتيجية «نيو ستارت»، وبما أن ماكرون من أبرز دعاة قيام الدفاع الأوروبي الموحد، فإنه كان منتظراً منه أن يتناوله مطولاً في خطابه، وهو ما فعله تحت عنوان دعوة الأوروبيين إلى أن تكون لهم كلمتهم في الملف النووي الذي يهم أمنهم بالدرجة الأولى، كذلك حثّهم على المشاركة في «حوار استراتيجي» حول دور الردع النووي الفرنسي.
تقوم رسالة ماكرون للأوروبيين بدعوتهم إلى امتلاك «مزيد من قدرات التحرك» إزاء التحولات والاضطرابات العالمية، وأن يكون لهم دور في المفاوضات المقبلة بشأن الرقابة على الأسلحة النووية، وبخصوص السباق على التسلح الجاري في الوقت الحاضر. وبرأيه، فإن القارة القديمة يمكن أن تكون مسرحاً له. وبكلام آخر، لا يريد الرئيس الفرنسي أن تقف أوروبا «متفرجة»، بينما الآخرون يقررون عنها. وعملياً، تعني هذه الدعوة أنه على الأوروبيين «أن يكونوا مشاركين وموقعين للمعاهدة الجديدة» التي قد يسعى الطرفان الأميركي والروسي للتوصل إليها، لتحل محل معاهدة العام 1987 التي منعت نشر صواريخ متوسطة المدى «من 500 إلى 5500 كيلومتر» والتي خرجت منها واشنطن العام الماضي دون مشاورة الأوروبيين المعنيين الأوائل بها. وبحسب ماكرون، فإن أمن أوروبا على المحك، إذ إن العقد المنتهي «شهد تغيرات في التوازنات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، وفي مجال الطاقة، ونحن نرى تحولات تظهر من جديد، يمكن أن تهدد السلام الذي تنعمنا به بعد كثير من المآسي التي ضربت قارتنا». في تلميح لما جرى منذ نهاية الحرب الباردة. ولذا، فإن ماكرون يقترح أن يعرض الأوروبيون معاً «أجندة دولية» لطرحها من أجل السيطرة على سباقات التسلح الممكنة. وفي إطار ذلك، فإن باريس «سوف تعمد إلى تعبئة شركائها الأوروبيين المعنيين لوضع قاعدة لاستراتيجية دولية مشتركة» تستطيع أوروبا اقتراحها. وقناعة ماكرون أنه في غياب «قاعدة قانونية (أي معاهدة)، فإن الأوروبيين سيجدون أنفسهم معرضين على أراضيهم، لسباق تسلح تقليدي وربما نووي ولذا لا يستطيعون وقوف موقف المتفرج». وخلاصة الرئيس الفرنسي أن يرد الأوروبيون على التحديات المتكاثرة من خلال التمتع بـ«استقلالية استراتيجية أكبر». بيد أن رسالة ماكرون الثانية للأوروبيين تبدو أكبر أهمية، لأنها تتناول دور قوة الردع الفرنسية المستقبلي على المستوى الأوروبي. وحقيقة الأمر أن الرئيس الفرنسي التزم إلى حد ما الغموض الذي قد يكون بناء. فهو من جهة، اقترح على الأوروبيين «حواراً استراتيجياً حول دور الردع النووي الفرنسي» من أجل ضمان أمن أوروبا، وأن يضم «من يرغب من الشركاء الأوروبيين إلى تدريبات الردع التي تقوم بها القوات الفرنسية». وبرأيه، فإن «الحوار الاستراتيجي» من شأنه أن يدفع باتجاه قيام «ثقافة استراتيجية» بين الأوروبيين. إلا أنه في الوقت عينه، يعيد التأكيد على «استقلالية القرار» الفرنسي في مجال الردع النووي، التي يراها «متلائمة مع التضامن الأوروبي الذي لا يلين».

ولمزيد من الوضوح، قال ماكرون: «إن المصالح الحيوية الفرنسية لها من الآن وصاعداً بعد أوروبي»، مضيفاً أن «القوات النووية الفرنسية تعزز أمن أوروبا، من خلال وجودها بحد ذاته، ولديها في هذا المجال بعد أوروبي أصيل». لكن هذا الكلام على أهميته لا يستجيب لما أخذت تطالب به بعض الأصوات، خصوصاً في ألمانيا التي تريد مشاركة في اتخاذ القرار، وهو ما لا يتطابق مع مفهوم باريس الحريصة على استقلالية قرارها. ولا يستطيع ماكرون الابتعاد عن موقف فرنسي يتوافر حوله الإجماع الوطني منذ أن أصبحت فرنسا دولة نووية. وبأي حال، فإن أوروبا الغربية التي عاشت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي فترة الحرب الباردة، في حماية المظلة النووية الأميركية والحلف الأطلسي، ليست مستعدة لمبادلتها بمظلة نووية فرنسية غير واضحة، ولا أكيدة، خصوصاً إذا تمسكت باريس بالاستقلالية المشار إليها. وما يصح على أوروبا الغربية يصح بشك أكبر على أوروبا الوسطى والشرقية. من هنا، قال ماكرون إن «فرنسا مقتنعة بأن أمن أوروبا على المدى الطويل يمر بالتحالف القوي مع الولايات المتحدة» مضيفاً أن «أمننا يمر أيضاً وحتماً بتوفير قدرات أكبر للتحرك، مستقلة للأوروبيين». ومن جهة أخرى، اعتبر ماكرون أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «لا يغير شيئاً في التعاون حول القضايا النووية» بين باريس ولندن.
وفي سياق موازٍ، كرر ماكرون دعوته لبناء حوار مع روسيا حول قضايا الأمن الجماعي، متمنياً أن تلعب موسكو دوراً «بناء». وعرض الرئيس الفرنسي هو تحسين ظروف الأمن الجماعي والاستقرار في أوروبا. وما يريده هو حوار فاعل، إذ إن أوروبا «لا يمكن أن تكون راضية عن الحوار الضعيف مع روسيا، خاصة عند ازدياد كم التحديات الأمنية التي تجب مناقشتها مع موسكو... أريد أن تكون روسيا لاعباً أساسياً في الأمن الأوروبي». ووفقاً لما قاله، فإن هذه العملية «تتطلب الصبر والدقة، وسوف تستغرق عدة سنوات».