تونس عشية «انتخابات الحسم»: رسائل مشفرة في كل الاتجاهات

رغم التصعيد الأمني «المفاجئ» مع المجموعات الإرهابية في إحدى ضواحي العاصمة التونسية، عشية يوم الاقتراع العام، يبدو المشهد السياسي العام يتطور في اتجاه إنجاز أول انتخابات برلمانية تعددية يراهن كبار زعماء الأحزاب والأطراف السياسية على أن تسفر عن اختيار حكومة دائمة، تضع حدا لسنوات من عدم الاستقرار والحكومات المؤقتة والفوضى الإدارية والاضطرابات الاجتماعية والأمنية.
لكن الساعات والأيام الأخيرة للحملة الانتخابية تميزت بصور «رسائل مشفرة بالجملة» عن قيادات كبرى الأحزاب، خاصة عن راشد الغنوشي زعيم التيار الإسلامي، والباجي قائد السبسي زعيم «نداء تونس»، وكمال مرجان زعيم «الدستوريين»، ونجيب الشابي وحمه الهمامي زعيمي اليسار الاشتراكي، بما يعني حرص كل طرف على استخدام «أسلحة» الساعات الأخيرة كاملة، عساه يضمن الفوز بالمرتبة الأولى من حيث عدد المقاعد، فيتحكم في مسار اختيار رئيس الحكومة الجديد وفريقه.
استعراض القوة في الشوارع الرئيسية للعاصمة تونس وكبرى المدن مثل صفاقس وسوسة وبنزرت وقابس وجربة كان السمة الغالبة على تحركات «شيوخ» السياسة والأحزاب.. الذين حرص أنصارهم على توظيف شعبيتهم النسبية وكارزماتيتهم عساها أن تسهم في مضاعفة ناخبيهم «الافتراضيين».. بعد أن أبرزت استطلاعات الرأي أن غالبية التونسيين لم يحسموا حتى الأيام القليلة الماضية أمرهم في اسم القائمة التي سيصوتون لفائدتها.
ولعل من أبرز ما ميز الخطاب السياسي لأبرز زعامات الأطراف السياسية المتنافسة داخل وسائل الإعلام وفي الاجتماعات الانتخابية، أن أغلبها يقدم نفسه بصفته «زعيم الوطن» أو من أبرز «زعماء البلاد».
تجلى ذلك خاصة في الكلمات التي توجه بها «زعيم المعارضة» السيد الباجي قائد السبسي وزير الداخلية والدفاع والخارجية في عهد بورقيبة، ثم رئيس البرلمان في عهد بن علي، الذي ردد مرارا: «الشعب معي»، و«الشعب معنا»، في إشارة إلى أنصار حزبه الذي يتهمه خصومه بأنه «حزب أتباع الرئيس السابق بن علي»، ويصر على كونه «حزبا» يضم 4 تيارات سياسية هي الدستوريون واليساريون والنقابيون والمستقلون.
وفي محاولة لتوظيف قدراته الخطابية، خاصة في وسائل الإعلام والبرامج التلفزيونية، قام قائد السبسي مرارا بمحاولة لعب ورقة «السيكولوجيا السياسية»، من خلال التأكيد على كون حزبه سيفوز بأغلبية ساحقة في الانتخابات وبكونه «سيفرض شروطا على الإسلاميين قبل التعاون معهم»، في الحكومة المقبلة التي قد تكون «توافقية»، من ذلك شرط «التبرؤ من الإخوان المسلمين والتمسك بـ(الإسلام التونسي وليس بالإسلام الوهابي المشرقي)».
كما نوّع الباجي قائد السبسي في استخدام سلاح التهكم على رموز الأحزاب المعارضة له ولحزبه، خاصة بين قيادات حركة النهضة الإسلامية وحلفائهم، مثل حزب المؤتمر بزعامة الرئيس المنصف المرزوقي، الذي قال عنه إنه «ليس مؤمنا».. فيما وصف الدكتور مصطفى بن جعفر زعيم حزب «التكتل» والعلمانيين الذين تحالفوا مع حركة النهضة خلال الأعوام الـ3 الماضية وشاركوا في حكومتها بكونه «اشتراكيا»، مستغربا تحالفه مع الإسلاميين ومع حزب المرزوقي.
في المقابل، فإن تصريحات جبهة «الثوريين»، وخاصة حزبي «الترويكا» و«النهضة» بزعامة راشد الغنوشي، حاولت أن توفق بين أمرين؛ إعلان «الوفاء لدماء الشهداء وشعارات شباب الثورة»، مع الدعوة للمصالحة الوطنية وتشكيل حكومة ائتلافية تمثل مختلف الفرقاء، لأن تونس ستنتقل من مرحلة انتقالية إلى أخرى».
الغنوشي أورد في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «نحن واثقون من أن حركة النهضة ستفوز بإذن الله، لأن الشعب التونسي يقدر تضحياتها من أجل تونس في مقاومة الديكتاتورية، ثم في تأمين الثورة من محاولات إجهاضها».
وتكشف تصريحات عدد من زعماء أحزاب اليسار الاشتراكي والقومي، مثل سمير الطيب وحمه الهمامي والحبيب كراي، وخصومهم في «الترويكا» السابقة أن جانبا من «الأسلحة» التي استخدمت في اليومين الأخيرين للحملة الانتخابية تبادل الاتهامات بين تياري «التوافق»، الذي يضم أحزابا قريبة من الدستوريين والنظام السابق، مثل حزب المبادرة بزعامة كمال مرجان وزير الخارجية الأسبق، وأحزابا أخرى تدعو إلى «تشكيل جبهة ضد الإسلاميين والظلاميين الرجعيين».
وقد حذر راشد الغنوشي من «محاولات الباجي قائد السبسي وبعض اليساريين المتطرفين تقسيم تونس إلى مسلمين وكفار»، واعتبر أن «عودة تونس إلى الاستقطاب مرفوضة».. وأورد أنها «لا تحتمل العودة للصراع بين سلطة ومعارضة، لذلك قلنا إن الأغلبية النسبية غير كافية لإدارة المرحلة المقبلة، وإن الحل في التوافق المبني على الثقة المتبادلة بين مختلف الفاعلين، واقتناعهم بأن إنجاز الاستحقاق السياسي للثورة لا يعني أننا حققنا كل مطالب الثورة، ولا لأي طرف إعادة تونس إلى واقع الاستقطاب والتجاذب على حساب الحرب على الإرهاب وتحقيق التنمية الشاملة والرفاه لكل الفئات، خاصة محدودي الدخل والطبقة المتوسطة، التي عانت من ضغط قروض الاستهلاك قبل الثورة، وتراجعت مقدرتها الشرائية بعدها».
لكن مظاهر التصعيد الإعلامي والسياسي بين قيادات بارزة في «التيارين الدستوري واليساري»، وخصومهما من زعامات حزب النهضة، لم تمنع بعض قادة حزبي المبادرة بزعامة الوزير السابق كمال مرجان ومحمد جغام، و«نداء تونس» بزعامة قائد السبسي من رفع «جزرة» إلى جانب «العصا».
وقد جاءت بعض المحامي الأزهر العكرمي، الناطق الرسمي باسم حزب قائد السبسي، لتؤكد أن «مزايدات مرحلة الحملات الانتخابية يمكن تجاوزها بـ(عقلانية رجال الدولة) ومنطق التفكير في (المستقبل المشترك).. وهو أمر يمكن تحقيقه إذا صدقت النوايا.. وإذا عاد غالبية المناضلين والنشطاء إلى مقولات جميلة سابقة سبق أن صدرت أيام (الحوار الوطني) عن غالبية الزعامات السياسية والنقابية.. بدءا من الباجي قائد السبسي والسيد راشد الغنوشي».
تصريحات الأزهر العكرمي جاءت عشية يوم الاقتراع، بعد صدور سلسلة من الانتقادات العنيفة التي وجهت إلى «الاستئصاليين» و«رموز» أقصى اليسار داخل «نداء تونس».. بعضها صدر عن نور الدين العرباوي عضو المكتب التنفيذي لحركة النهضة شخصيا.. والبعض الآخر من تلك الانتقادات صدر عن رموز من التيار الدستوري التجمعي، بما في ذلك السيد محمد الغرياني المستشار السياسي السابق لحزب نداء تونس والأمين العام سابقا للحزب الحاكم.. الذي يبدو أنه وعددا من المقربين منه انسحبوا بدورهم من «النداء»، وسيلتحقون بحزبي المبادرة بزعامة كمال مرجان، والحركة الدستورية بزعامة رئيس الحكومة الأسبق حامد القروي.. بعد أن انسحب بعض المحسوبين على اليسار، والتحقوا بـ«الاتحاد من أجل تونس» في صيغته الجديدة.
إلا أن تنظيم الانتخابات يعني بالنسبة لكثير من الزعماء السياسيين، مثل مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي وزعيم حزب التكتل اليساري، ورفيق عبد السلام وزير خارجية تونس سابقا والقيادي في حزب النهضة أن «تونس ستقطع مع مرحلة الحكومات المؤقتة وستنتقل إلى الاستقرار»، وأنها «تسير في الاتجاه الصحيح، وأن انتقالها الديمقراطي أصبح أكثر رسوخا، وأن التونسيين اختاروا أن تكون الديمقراطية الطريقة التي يديرون بها شؤونهم واختلافاتهم، وهذا يعني أن تونس طوت نهائيا صفحة الديكتاتورية والانتخابات المزورة ومبايعة الحاكم المستبد وحرمان التونسي من حقه في الاختيار الحر. أهم ما كنّا ننتظره تحقق، وهو انتصار الديمقراطية على الفوضى وأحلام الانقلاب، وأن يذهب التونسي مرفوع الرأس إلى مركز الاقتراع ليختار بكل حرية من يمثله ومن يحكمه».