حرب استقرار الجغرافيا

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الدامية، التي صدمت العالم، كانت الرياض مع المجتمع الدولي بقيادة أميركا، أحد أبرز الشركاء الاستراتيجيين في الحرب على التطرف والإرهاب حول العالم. كان دورا توجبه مسؤوليتها الأخلاقية تجاه الأمن الإقليمي للمنطقة استنادا إلى وزنها الديني والسياسي والاقتصادي.

بعد لحظة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الدامية، التي صدمت العالم، كانت الرياض مع المجتمع الدولي بقيادة أميركا، أحد أبرز الشركاء الاستراتيجيين في الحرب على التطرف والإرهاب حول العالم. كان دورا يوجبه مسؤوليتها الأخلاقية تجاه الأمن الإقليمي للمنطقة استنادا إلى وزنها الديني والسياسي والاقتصادي.
قاد البيت السياسي السعودي موجة من المراجعات الداخلية والخارجية القاسية، أعاد تقييم المناهج الدينية، كرر التأكيد بقرارات سياسية على قيم التسامح الديني، أعلى من قيمة الخطاب الوحدوي الوطني، وتحمل النقد القاسي من العالم الخارجي.
عَبَرَ العالم 10 سنوات من الشراكة الاستراتيجية في محاربة التطرف وتجفيف منابعه، نتج ما يشبه دخول الجماعات الإرهابية في حالة موت سريري، محصورة في دول «فاشلة» لا مقومات للدولة الحديثة فيها ولا مؤسسات متماسكة قادرة على احتكار قوة القانون. حتى جاءت لحظة «الربيع العربي» الذي أفرز حالات من الانفلات الأمني على مستوى منطقة الشرق الأوسط، خصوصا مع صعود موجة «الإسلام السياسي» ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين، التي صنفت إرهابية لاحقا في مصر وبعض دول الخليج. وما تبعها من ظهور للجماعات الجهادية ليس على الامتداد الإقليمي العربي وحده، بل وامتد إلى استخدام دول أفريقية كحديقة خلفية لهذه الجماعات الأصولية. قبل نحو العام، نشرت قناة «CNN» الأميركية تقريرا حصلت عليه بشكل حصري، يفيد بأن عدد الهجمات أو النشاطات المرتبطة بأعمال الإرهاب حول العالم ارتفع عام 2012 بشكل تاريخي، ورصد التقرير 7 تنظيمات أساسية مسؤولة عن معظم الهجمات، بينها 6 مرتبطة مباشرة بأدبيات تنظيم القاعدة. وبحسب التقرير الذي أعده «الائتلاف الوطني لدراسات الإرهاب ومكافحة النشاطات الإرهابية» الأميركي فقد شهد العالم خلال 2012 أكثر من 8500 عملية إرهابية، أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 15500 شخص، وتركزت الهجمات في أفريقيا وآسيا ودول الشرق الأوسط. هذا التصاعد التاريخي والوحشي للاعتداء على المدنيين وفرض تصورات لإدارة المجتمعات قادمة من مجاهيل التاريخ، أفرز التجربة الإرهابية الأكثر بشاعة، تنظيم داعش.
• لماذا «داعش»؟
في أحد المؤتمرات الصحافية في باريس أخيرا. نبه وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل إلى أن «التهديد الذي يمثله تنظيم (داعش) قد تجاوز في جغرافيته العراق والشام وبات يشكل خطرا يهددنا جميعا ويستدعي منا محاربته والتصدي له بروح جماعية تقي دولنا مخاطره ونتائجه، وحيث إن هذا التنظيم قد وجد في أرض سوريا بحكم طبيعة نظام الأسد أرضا خصبة للتدريب وتلقي العتاد والتحرك بحرية دونما عرقلة أو ضوابط فلا بد لأي استراتيجية لضرب (داعش) من أن تشمل أماكن تواجده على الأرض السورية».
والحال، أن أقسى ضربة تلقاها تنظيم القاعدة بعد الحادي عشر من سبتمبر كانت فقدان الملاذ الآمن. ومن ثم الدخول في حالة من الشتات أو الكمون. خسر تنظيم «القاعدة» البيئة «الجغرافية» التي تستقطب وتدرب المجندين الجدد.
تجربة داعش اليوم تنبئ عن تطور لافت في «العقل السياسي» لهذا التنظيم. عزاه باحثون ومهتمون بأن إطاره الهيكلي قائم على أدبيات بعثية من خلال بقايا جيش صدام حسين الذي حله الجيش الأميركي إبان غزوه العراق.
كان الملمح الأبرز تحرك التنظيم برسم خارطة جغرافية لحدوده، حتى لو على حساب رفاق السلاح من جبهة النصرة، الذراع العسكرية لتنظيم القاعدة في بلاد الشام.
كان الانتشار المنظم والسريع، مع تنصيب مظاهر إدارية شكلية بدائية، يفصح بوضوح عن تنظيم أكثر تطورا في سلوكه ومشروعه الجيو-سياسي. كان التنظيم يقتسم حصته من كبرى الدول وهي العراق وسوريا بكل مواردها الاقتصادية النفطية في المناطق التي يسيطر عليها، مع تهديد لحدود الدول المباشرة.
يحاول التنظيم تبيئة المحيط الجغرافي الذي يسيطر عليه لتجربة «أفغنة» جديدة بموارد أغنى وكاريزما دموية، باتت تستقطب مجندين من كل اللغات والأعراق والخلفيات الثقافية المختلفة.
ما يعني أن تفرز هذه التجمعات من المتطرفين الأصوليين وشذاذ الآفاق ومرتزقة العالم مجتمعات جديدة سيصبح من الصعب التعامل معها أو إزالتها بسهولة عن الجغرافيا الأصيلة للمكان، خصوصا بعد زراعة هوية جديدة للمكان بكامل مواصفاته الحياتية.
• الحلول السياسية بالتوازي مع العسكرية
قاد الرئيس السوري بشار الأسد ونوري المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق، سياسة طائفية أنهكت المنطقة في صراعات هوية دموية، متماهيين مع خط السياسة الخارجية الإيرانية. تدخلت إيران عسكريا ولوجستيا وماديا في الحرب على الشعب السوري بجانب جيش بشار الأسد، الذي فاق ضحاياه إلى اليوم 180 ألف قتيل منذ انطلاق الثورة. بينما كان نظام المالكي في بغداد يوفر دعم فصائل عراقية شيعية مقاتلة ويتولى مهمة تمرير الدعم الإيراني للنظام في دمشق. تحدي «يقظة الهويات الطائفية» التي اشتعلت في المنطقة والتي باتت تهدد استقرارها الجغرافي ووحدتها الوطنية، كان يلزم دول الاستقرار في المنطقة، وأبرزها السعودية أن تكون شريكا استراتيجيا مع قوى الاعتدال الإقليمية، لحماية الوحدة الوطنية لدول الجوار، وبالتالي استقرارها السياسي الذي يساعدها على مواجهة الإرهاب الذي تتطاير شظاياه على الجميع.
هذه الحلول السياسية رافقتها قرارات أميركية بتحجيم تقدم داعش في العراق وسوريا. ما يعلق عليه جيفري وايت الباحث في معهد واشنطن والضابط السابق لشؤون الاستخبارات الدفاعية بقوله «بالنسبة لنظام الأسد، فإن الوضع العراقي يشكل تحديا رئيسا آخر. فسوف تحتاج دمشق إلى إيجاد وسيلة للتعويض عن خسارة حلفائها المقاتلين العراقيين وربما لتكثيف القتال ضد تنظيم داعش في المناطق التي تعاني فيها قوات النظام من الضعف. وعلاوة على ذلك، فإن أي انتصار تحققه ضد داعش قد يساعد فعلا المعارضة السورية». ويضيف «بينما زاد تقدم تنظيم داعش في العراق من تعقيد الحرب السورية، إلا أنه يمثل أيضا فرصة أخرى للولايات المتحدة وحلفائها لتحقيق المكاسب بوجه الأسد. فتقديم المساعدات العسكرية لجماعات الثوار المعتدلين في سوريا قد يساعدهم في الاستفادة من الوضع الحالي وبالتالي يتيح لهم التحرك بشكل أكثر فعالية ضد داعش - الذي هو عدو الجميع - وضد النظام، الذي هو عدو الأكثرية. ونظرا إلى أن المعدات العسكرية الأميركية التي صادرها داعش قد تؤثر قريبا على إمكانياته في سوريا، فقد يحتاج هؤلاء الثوار اليوم إلى مساعدة أميركية ملموسة أكثر من أي وقتٍ مضى».
يظل أحد أبرز التحديات التي تواجه المجتمع الدولي في حربه على الإرهاب، هو فهم كيفية إيقاف مد هذه الجماعات بالأفراد المتعاطفين الواقعين تحت تأثير الدعاية الأصولية (سنية وشيعية).
ما يشرحه كلارك ماكوالي أستاذ علم النفس بقوله «يأملُ الإرهابيّون بشكل خاصّ أن يحصلوا على استجابة عنيفة تساعدهم على تحريك الأناسِ المؤيّدين لهم، تكون المجموعة الإرهابيّة على قمّة هرم المؤيّدين والمتعاطفين، وقاعدة الهرم مؤلّفة من هؤلاء الذين يتعاطفون مع قضية الإرهابي حتّى ولو كانوا يرفضون الوسائل العنيفة التي يستخدمها هذا الإرهابيّ».
المعركة القادمة ضد الإرهاب لن تكون عسكرية أو اقتصادية أو سياسية فقط، بل بحثية، علمية، ومنهجية لفهم كل آليات تطور هذه التجمعات والتنظيمات الإرهابية أو المتطرفة، التي يبدو أنها تجيد تجديد أساليبها باستمرار.