«جدار تطرف» يقسم ألمانيا بعد 30 عاماً على توحيدها

كان من المفترض أن تكون ذكرى مرور 30 عاماً على سقوط جدار برلين، التي تصادف 9 نوفمبر (تشرين الثاني)، مناسبة احتفالية ضخمة في ألمانيا. ولكنها تحل هذا العام بصخب أقل من ذاك الذي صاحبها في السنوات الماضية، وبأشباح كثيرة تطفو في فضاء الاحتفالات.
ورغم أن المدينة خصصت أسبوعاً كاملاً للاحتفال بهذه الذكرى، فإن نائب عمدة برلين مفوض الثقافة في العاصمة كلاوس ليدرر، المسؤول عن تنظيم الاحتفالات، قال إن الأجواء هذا العام ستكون «تأملية» أكثر منها احتفالية. وبالنسبة إليه، فإن «الروح الإيجابية التي شاهدناها قبل 30 عاماً، أو حتى قبل 5 أو 10 أعوام لم تعد موجودة اليوم… ومع ذلك، فنحن نحتفل، ننظر إلى التاريخ معاً، ونتحدث عن المستقبل».
وما يزيد من الرمادية التي ترافق هذه الاحتفالات غياب زعماء الولايات المتحدة وروسيا اللتين خاضتا حرباً باردة، تحولت برلين رمزاً لها طوال 28 عاماً، وكان الجدار القاسم شاهداً عليها. ورغم أن أسباب غياب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والروسي فلاديمير بوتين، وحتى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، مرتبطة بقضايا داخلية، فإنها لا تساعد على الاحتفال بأجواء إيجابية.

وما زالت الفروقات كثيرة بين شرق ألمانيا وغربها، رغم أن الكثير تغير خلال الأعوام الثلاثين منذ سقوط الجدار، وإعادة توحيد ألمانيا الشرقية والغربية. يقول هانو هوشمث، وهو أستاذ تاريخ في جامعة بوستدام، إن الاحتفالات هذا العام تحمل «فهماً أفضل للفروقات الكبيرة التي ما زالت تقسم الشرق عن الغرب، وهي اختلافات اجتماعية وثقافية وسياسية»، ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «هناك شعور لدى الألمان في الشرق بأن الألمان في الغرب متفوقون عليهم». ويشير مثلاً إلى أن «معظم الوظائف العليا في ألمانيا يحتلها ألمان من الغرب، وقلائل من الشرق. في البداية، بعد الوحدة مباشرة، كانت الحجة أن سكان شرق ألمانيا لا يحملون مؤهلات كافية». ولكن اليوم، يقول أستاذ التاريخ الذي هو نفسه كبر في شرق ألمانيا، فإن السبب أبعد من ذلك «وله ارتباط بغياب شبكة أعمال جيدة لدى مواطني الشرق».
قد تكون أحد أسباب شعبية المستشارة أنجيلا ميركل الكبيرة، داخل ألمانيا وخارجها، أنها كبرت في ألمانيا الشرقية، رغم أنها ولدت في الغرب في مدينة هامبورغ، ولكنها انتقلت عندما كانت صغيرة مع والدها القس إلى ولاية براندنبرغ القريبة من برلين، وكبرت في ظل جمهورية ألمانيا الديمقراطية تحت الحكم الشيوعي، وتعلمت اللغة الروسية. وكان سقوط جدار برلين محركاً رئيسياً في دخول ميركل عالم السياسة، إذ بدأت مسيرتها عام 1989، وتدرجت لتصبح مستشارة ألمانيا.
ويرى الصحافي إيفالد كونيغ، وكان الوحيد الحاصل على تصريح صحافي للعمل في ألمانيا الشرقية والغربية قبل سقوط الجدار، أن أسباب استمرار «تراجع» ألمانيا الشرقية عن الغربية تعود لطريقة تعاطي سكان الشرق مع تاريخهم، وعدم اعترافهم بالدور الذي لعبوه في وصول هتلر للسلطة، والمجازر التي تلت ذلك. ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن «الفاشية واليمين المتطرف كانت دائماً أموراً يتم نكرانها في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. فتلك الدولة كانت رسمياً معادية للفاشية، وتقول إنه لا دخل لها بما حصل قبل، مما يعني أن سكانها لم يتصالحوا أبداً مع تاريخهم، كما حصل في ألمانيا الغربية».
ورغم أن الفروقات الاجتماعية والثقافية حاضرة بقوة بين الشرق والغرب، فإن الفروقات السياسية قد تكون الأبرز، وأكثر ما يتسبب بـ«الإحباط» والخوف اللذين بدأ ينتشران في ألمانيا منذ دخول حزب البديل لألمانيا اليميني المتطرف البرلمان (البوندستاغ) عام 2017. فقد كانت تلك المرة الأولى التي يدخل فيها حزب يميني متطرف يحمل ويجاهر بأفكاره المناهضة للأجانب والمسلمين واليهود بهذه العلنية منذ سقوط هتلر.
وكانت الولايات الشرقية التي عاشت تحت الحكم الشيوعي سابقاً هي أكثر من صوت لحزب البديل لألمانيا الذي ما زال يتمتع بشعبية كبيرة هناك، وبات الحزب الأول في معظم الولايات الشرقية، متفوقاً بذلك على الحزبين التقليديين الاتحاد المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الديمقراطي. وبحسب الاستطلاعات، فإن خطاب الحزب اليميني المتطرف المعادي للأجانب واللاجئين شكل عامل جذب رئيسي لهؤلاء الناخبين الشرقيين. واستفاد حزب البديل لألمانيا من قرار ميركل السماح لأكثر من مليون لاجئ سوري بدخول البلاد، ليطلق عام 2017 حملة انتخابية ناجحة مبنية على الخوف من الآخر.
وكانت الولايات الشرقية كذلك هي التي خرجت منها مظاهرات كبيرة ضد اللاجئين، لعل أبرزها كان العام الماضي في مدينة كيمنتس التي كانت تعرف سابقاً بمدينة كارل ماركس. وقد تسببت حينها الصور الآتية من هناك بصدمة في ألمانيا، بعد أن أظهرت رجالاً أجسادهم مليئة بالأوشام، مما يدل عادة على انتمائهم لليمين المتطرف، يلاحقون لاجئين ويضربونهم. وحصلت تشبيهات حينها في الصحافة بما كان يحصل لليهود أيام النازيين. واستمرت المظاهرات أسابيع في تلك المدينة، وكانت الشرارة جريمة قتل ارتكبها لاجئ. وقبلها، سبقتها مظاهرات مثيلة في مدينة كوتباس في ولاية براندنبيرغ، وكذلك في مدينة دريسدن بولاية ساكسونيا، وولدت جماعة بيغيدا المتطرفة التي تنظم مسيرات دورية ضد اللاجئين.
اليمين المتطرف الذي وجد موطئ قدم في الولايات الشرقية لم يتوقف عند استهداف اللاجئين، بل تطور كذلك لاستهداف السياسيين المؤيدين للاجئين. وكانت جريمة قتل عمدة كاسل بولاية هسن على يد يميني متطرف أشبه بجرس إنذار للأمن الألماني، لمدى توسع اليمين المتطرف في السنوات الماضية، وتعزيز قدرتهم على تنفيذ جرائم قتل. وألقي القبض بعد تلك الجريمة على شبكة يمينية متطرفة، أعضاؤها في مدن عدة في ولايات ألمانيا الشرقية، بتهمة التخطيط لتنفيذ هجمات إرهابية، والتخطيط لقتل سياسيين ولاجئين.
واللافت أن ميركل، التي عاشت وكبرت في شرق ألمانيا، كانت على الأرجح تعي جيداً تأثير قرار استقبال اللاجئين، ومع ذلك اتخذته. ربما اتخذته خوفاً مما كانت ستقوله الصحف، لو أنها رفضت استقبال لاجئين هاربين من حرب، أو ربما تحدياً للمجتمع الألماني، ومحاولة منها لانتشال سكان الولايات الشرقية من انغلاقهم الذي عاشوه في ظل الحكم الشيوعي، إذ لم يكونوا على تواصل مع الأجانب، فلم يكن مسموحاً لهم بالسفر أو المغادرة، مما أدى إلى مخاطرة كثيرين بالهرب، أو محاولتهم الهرب عبر تسلق جدار برلين، مما أدى إلى مقتل الجزء الأكبر منهم. كما أنه لم يكن يسمح لأحد بدخول ألمانيا الشرقية إلا للقلائل، مثل العمال القادمين من دول شيوعية آنذاك، ككوبا وفيتنام، ولم يسمح لهم بالاختلاط بالألمان، بل كانوا يعيشون في معسكرات عمال خاصة.
وعندما سقط الجدار، وعادت الوحدة الألمانية، خسر كثير من سكان ألمانيا الشرقية ليس فقط وظائفهم التي كانت تؤمنها لهم الدولة الشيوعية، بل أيضاً منازلهم التي كانت قد وزعت عليهم، وهي أصلاً مملوكة من ألمان يعيشون في الغرب. ويقول الصحافي كونيغ: «في الوقت الذي خسر فيه كثير من سكان ألمانيا الشرقية وظائفهم ومنازلهم، غادر كثير من الشبان إلى ألمانيا الغربية للحصول على عمل، وغادرت كثير من النساء كذلك، وتبقى الكبار في السن والفاشلون».
ويعترف كونيغ بأن تعبير «فاشلين» قد يكون «قاسياً بعض الشيء»، ولكنه يضيف أن «هذا كان واقع ما حصل»، ويوضح أن ألمانيا عندما توحدت استثمرت الكثير في الولايات الشرقية، ولكن لبناء البنية التحتية، وليس لبناء «عقول السكان»، وهو ما يصفه بأنه كان خطأ. كل هذا يذكره كونيغ لمحاولة تفسير ميول كثيرين منهم للتصويت لليمين المتطرف.
أما هاشموث، أستاذ التاريخ الذي كبر في ألمانيا الشرقية وغادرها بعد أن سقط الجدار، فيقول إن المجتمع في الولايات الشرقية «مجتمع غير ليبرالي، ليس فقط بسبب الحكم الشيوعي، ولكن أيضاً بسبب حكم النازيين قبله»، ويضيف: «كان صعباً في ألمانيا الشرقية تأسيس مجتمع مدني حر، وكانت المرة الأولى التي تحقق فيها ذلك عام 1990. ولكن التحول من مجتمع منغلق لمجتمع ليبرالي حر أثبت أنه صعب، ربما لأنه أتى بطريقة مفاجئة سريعة جداً. وما زاد على ذلك مشكلات ارتفاع البطالة، والتركيبة الديموغرافية التي تغيرت بسبب انتقال كثيرين إلى الغرب، فأصبح هناك 3 رجال لكل امرأة واحدة، مما زاد من المشكلات الاجتماعية».
وإضافة إلى كل ذلك، يقول هاشموث إن ما يفسر جنوح الألمان الشرقيين إلى تأييد اليمين المتطرف هو «نجاح موجة اليمين الشعبوي عالمياً، وتصويت الأشخاص لأحزاب تعد بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء». ورغم أن كثيرين من سكان شرق ألمانيا يشعرون بشيء من الحنين لأيام جمهورية ألمانيا الديمقراطية، فإن «حنينهم هذا»، بحسب هاشموث، مرتبط بالشعور بالأمان ليس أكثر، في عالم فيه «الكل لديه وظيفة ومنزل». هذا الشعور يصفه كونيغ بأنه «نوستالجيا ساذجة»، مفسراً إياه بأن كثيراً من سكان ألمانيا الشرقية كان يعمل لدى الستازي (المخابرات الداخلية في ألمانيا الشرقية)، وهو ما وصفه بأنه «وظيفة رمزية مزيفة».
كل هذه الفروقات يرى كثيرون أنها ستأخذ سنوات طويلة لتزول، وربما لن تزول أبداً، بل سيتعين على سكان ألمانيا الشرقية والغربية التعايش معها.