خوف جنوح البرازيل إلى اليسار «حمل بولسونارو إلى سدّة الرئاسة»

عندما فاز لويس إيغناسيو لولا برئاسة البرازيل منذ 16 عاماً، وقف أمام أنصاره ليقول: «وأخيراً... انتصر الأمل على الخوف»، مدشّناً أول حكم يساري منذ عقود وواعداً بإنهاض الملايين من الفقر في العملاق الاقتصادي الأول لأميركا اللاتينية. السنوات الأولى من الحكم الذي قاده حزب العمّال، تحققت فيها بعض الوعود الانتخابية بمزيد من الرفاه والعدالة الاجتماعية، لكن مع نهاية الولاية الأولى، وبخاصة في الولاية الثانية، دخلت البرازيل في نفق طويل من الركود الاقتصادي والفضائح المالية الضخمة والفساد، انتهت بعزل خليفة لولا، الرئيسة السابقة ديلما روسّيف، ثم بإدانة لولا نفسه الذي يقضي حالياً فترة 12 عاماً في السجن بتهمة الكسب غير المشروع.
الغضب الذي تولّد من الخيبة العميقة التي أصابت أنصار لولا من أدائه وسلوك حاشيته، والخوف الذي سرى في الأوساط المحافظة من جنوح البرازيل نحو أطراف المعسكر اليساري في شبه القارة الأميركية، هما اللذان حملا جاير بولسونارو إلى سدّة الرئاسة منذ مطلع العام الحالي، مشرّعاً أبواب المواجهة في كل الملّفات التي كان معظم أسلافه ينزعون إلى الاعتدال في معالجتها، وفاتحاً جبهات غير مسبوقة من التوتّر في علاقات البرازيل مع جيرانه والعالم.
كل المواقف المتطرفة والتصريحات العنصرية التي صدرت عنه خلال الحملة الانتخابية، بما في ذلك دفاعه عن الديكتاتورية العسكرية التي حكمت البرازيل 20 عاماً في القرن الماضي، لم تقف حائلاً دون فوزه، بل كانت في تقدير كثيرين من العوامل الأساسية التي أدت إلى نجاحه.
الأشهر التسعة الأولى من ولاية بولسونارو لم تثمر نتائج تذكر على جبهات الاقتصاد ومحاربة الفساد والإصلاح الإداري، التي قامت عليها وعود حملته الانتخابية، في الوقت الذي كانت قراراته في السياسة الخارجية تقلب كل التوازنات التي قامت عليها علاقات البرازيل مع الدول الأخرى خلال العقود السبعة المنصرمة. باكورة هذه القرارات كانت نقل سفارة بلاده في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وإرسال زوجته لافتتاحها. ثم كان قرار طرد آلاف الأطباء الكوبيّين الذين كانوا يقدّمون خدمات العناية الصحّية في أرياف البرازيل التي لا تصلها الخدمات الوطنية. بعد ذلك جاءت تصريحاته ضد مرشّح الحركة البيرونيّة لرئاسة الأرجنتين في الانتخابات الأوليّة، وتحذيراته من جنوح جارة البرازيل وشريكتها التجارية الأولى إلى معسكر اليسار واحتمالات تعرّضها لأزمة نزوح وهجرة.
الأمم المتحدة كان لها نصيبها أيضاً من «فورات» الرئيس البرازيلي عندما هاجم بقسوة غير مألوفة المفوّضة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشيليه، التي انتقدت في تقريرها الأخير «الضغوط التي يتعرّض لها الناشطون في مجال حقوق الإنسان في البرازيل على يد قوات الأمن والشرطة»، وقال: «على غرار الرئيس الفرنسي ماكرون، تتدخّل في الشؤون الداخلية والسيادة البرازيلية، وتدافع عن حقوق الإنسان للمجرمين ضد قوات الأمن والشرطة الشجاعة». وكانت باشيليه قد ذكرت في تقريرها أمام مجلس حقوق الإنسان أنه «في الأشهر الستة الأولى من هذا العام بلغ عدد الأشخاص الذين اغتالتهم قوات الشرطة في مدينتي ريّو دي جانيرو وساو باولو 1291 شخصاً، أي بزيادة قدرها 17 في المائة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي».
لكن انتقادات بولسونارو إلى المفوّضة السامية، وهي الرئيسة السابقة لجمهورية تشيلي، لم تتوقف عند هذا الحد، بل ذهبت حد تذكيرها بأن بلادها اليوم «ليست كوبا ثانية بفضل شجاعة الذين قرروا وضع حد لحكم اليسار في العام 1973، ومنه كان والدها العسكري الشيوعي برتبة عميد يومذاك».
ويذكر أن باشيليه نفسها تعرّضت للتعذيب على يد نظام الجنرال بينوتشيت، الذي قام بعد الانقلاب الدموي على الرئيس سالفادور آييندي.
آخر المتاعب التي تواجه الرئيس البرازيلي، الذي تراجعت شعبيته 9 نقاط حسب الاستطلاعات الأخيرة، مصدرها الأزمة البيئية الناجمة عن الحرائق الهائلة في غابات الأمازون، والتي يـؤكّد الخبراء أن الإجراءات التي اتخذتها حكومة بولسونارو هي من العوامل الرئيسية التي أدت إلى نشوبها، وقضت حتى الآن على مساحة تعادل 5 ملايين ملعب لكرة القدم. فبعد الانتقادات الدولية الشديدة التي تعرّضت لها الحكومة البرازيلية، والأزمة التي نشبت بين البرازيل وفرنسا على خلفية هذه الحرائق، وجّهت مجموعة تضمّ 230 من الصناديق الدولية للاستثمار الدولي، تعادل موجوداتها 9 أضعاف إجمالي الناتج المحلي البرازيلي، دعوة إلى الشركات والمؤسسات البرازيلية إلى «مضاعفة جهودها وتأكيد التزامها وقف التعرية الحرجية في عملياتها وسلاسلها التوريدية»، حفاظاً على سمعتها في السوق الدولية. كما دعت المجموعة حكومتي البرازيل وبوليفيا إلى اتخاذ تدابير سريعة وفعّالة لحماية غابات الأمازون والحد من تعريتها.
في غضون ذلك، أقدمت الأمم المتحدة على خطوة استثنائية، يوم الخميس الماضي، عندما قررت «فرض حظر» على بيان البرازيل أمام قمّة المناخ التي تبدأ في نيويورك الأسبوع المقبل، بسبب عدم تقديم البرازيل خطة محددة بشأن التزامها التصدّي لتداعيات تغيّر المناخ.