المحتوى الإعلاني الإلكتروني... بين الفبركة وهيمنة رأس المال

أصبحت المواقع الإلكترونية الصحافية تعاني حالة من الفوضى وغياب الحد ما بين المحتوى الإعلامي والإعلاني، مما فتح الباب أمام غياب أخلاقيات الإعلان، وغياب المصداقية والنزاهة وتواري الهدف الرئيسي من الوسيلة الإعلامية ألا وهو الإخبار.
خطورة الظاهرة تتجسد في عدم التزام المواقع الإلكترونية بوضوح الخط الفاصل بين الحقيقة والخداع في الممارسات الإعلانية، في ظل ارتباطها بالاقتصاديات الضخمة وهيمنة رأس المال، حتى أنها تنصاع في كثير من الأحيان لحجب الأخبار السلبية عن المعلنين لديها.
اللافت في هذه الظاهرة هو وجود الإعلان تحت سيطرة المحرر الذي يكتب الإعلان بأسلوب صحافي، فيخرج كما لو كان مادة صحافية في صورة تقرير أو خبر دون خضوعها لأنظمة وقوانين ومواثيق أخلاقية.
ويأتي ذلك متزامناً مع تأكيد أحدث دراسات معهد «رويترز لدراسة الصحافة»، في تقرير الأخبار الرقمية السنوي أن «المؤسسات الإخبارية تواجه تحديات من شركات التكنولوجيا العملاقة ويربكها غياب الثقة على مستوى جمهورها؛ لكن لديها مشكلة أعمق كثيراً، إذ إن أغلب الناس لا يريدون دفع المال مقابل الأخبار على الإنترنت». متسائلة من سيدفع ثمن الأخبار في ظل تفضيل الجمهور تخصيص الأموال للمواقع الترفيهية التلفزيونية.
وحول مهنية هذا التداخل بين المحتوى الإعلامي والإعلاني. أكد الدكتور عبد الملك بن عبد العزيز الشلهوب، أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود لـ«الشرق الأوسط»، أنه «مع تزايد استخدام المعلنين للإنترنت بشكل عام والمواقع الإلكترونية بشكل خاص في الإعلان، باتت بعض هذه الوسائل تقوم بإقحام الإعلان في المضمون الإعلامي المقدم في هذه المواقع، ولا سيما في المواد الإخبارية، كأن يكتب صحافي خبراً عن مرض ما، ويقول إن دواءً معيناً هو أفضل الأدوية في علاج هذا المرض، وهذا الذي يُمكن أن نسميه (فخ الإعلان التحريري)، وهو الذي تقع فيه كثير من المواقع الإلكترونية، وما تقوم به هذه المواقع بخلط المحتوى الإعلامي بالمحتوى الإعلاني يؤثر على مهنية الوسيلة أو الموقع الإلكتروني ومصداقيتها لدى المتلقي».
ويلفت الشلهوب إلى أن ذلك «يتنافى مع أخلاقيات العمل الإعلامي التي يجب أن تلتزم بها الوسيلة الإعلامية في عملها؛ فأخطر المشكلات الأخلاقية التي تواجه المواقع الإعلامية الإلكترونية، عدم الفصل الواضح بين المادة التحريرية والإعلانية، وفي هذا قمة الخداع للمتلقي، وتكون النتيجة لذلك تزييف وعي القارئ وتضليله»، مضيفاً أن «الحصول على ثقة القارئ أساس الوسيلة الجيدة والمتميزة؛ لذا يجب على القائم بالاتصال بذل كل جهد ممكن لأن يكون المحتوى الإعلامي والخبري دقيقاً وخالياً من أي انحياز وأن تكون الرسالة الإعلامية على جانب كبير من الدقة والموضوعية وتحري الصدق والبعد عن الهوى وإغفال الذاتية، وهذا ما يبحث عنه الجمهور وهو المصداقية والتي هي أحد المعايير الأساسية التي تميز وسائل الإعلام».
ويقول الدكتور عثمان فكري، أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة لـ«الشرق الأوسط»، هذه الظاهرة أصبحت ملموسة وتغزو المواقع الإلكترونية أخيراً بما فيها المواقع الكبيرة والمعروفة، والتي تحظى بعدد زيارات مرتفع جداً، وأصبح الأمر شبيهاً بالقنوات التلفزيونية الفضائية التي تبث من دون ترخيص وتذيع إعلانات عن منتجات طبية مجهولة الهوية، حيث كانت تلك الفوضى الإعلانية منتشرة دون رقيب، ومع محاربتها وجدت طريقها نحو المواقع الإلكترونية».
وعن السبب وراء رواجها. أضاف عثمان: «كونها إعلانات مدفوعة الأجر، في ظل سوق إعلامية تعاني من تدهور كبير في كافة عناصرها مهنياً وإدارياً ومادياً، وهذه واحدة من تبعات ذلك، فضلاً عن ضعف مستوى التحرير والأخبار المفبركة وغيرها»، موضحاً: «بكل تأكيد الصحف الورقية والإلكترونية في مصر تعاني مادياً، وتبحث عن أي تمويل دون البحث في خطورة هذا الأمر على مصداقيتها وثقة القارئ فيها».
وحول تحول هذه الإعلانات من هيمنة «غوغل» إلى رحاب المواقع الإلكترونية، يؤكد: «طبعاً (غوغل) فرض سيطرته وهيمنته على السوق الإعلامية في معظم دول العالم، ويُحصل أرباحاً مهولة من نشره لمنتج ليس ملكه من خلال الإعلانات التي يقاسم الصحف في أرباحها، وتماماً كما يفعل «فيسبوك»، لذا فالأزمة تطال المواقع العالمية»، لافتاً إلى أن بعض الدول بدأت تقاوم هذه الظاهرة عن طريق قوانين معينة تنظم المسألة وتفرض على «غوغل وفيسبوك» مقابلاً مادياً معيناً نظير نشرهم هذه الأخبار.
من جانبه، يرى دكتور خالد الحلوة، الأستاذ المساعد في قسم الإعلام بكلية الآداب، جامعة الملك سعود، بالسعودية: «في الفترة الحالية نلاحظ انتشار ظاهرة تسمى (تسويق المحتوى) وهو أن تقوم الشركات والعلامات التجارية الكبرى بالترويج لنفسها على شكل محتوى إعلامي مثل أخبار ومقالات وصور ومقاطع فيديو تصل إلى الجمهور مباشرة. وهذه المواد لا تظهر كإعلانات منفصلة وواضحة، بل تبدو للقارئ أو المشاهد وكأنها جزء من المحتوى الإعلامي للصحيفة أو المؤسسة الإعلامية». ويلفت إلى أن «الصحف والمواقع الإلكترونية تستقطب مثل هذه المواد التسويقية كمصدر دخل أساسي في ظل تدني المردود المالي لكثير من الصحف والمواقع الإلكترونية حالياً».
وأضاف الحلوة لـ«الشرق الأوسط» أن «السبب في انتشار هذه الظاهرة هو الثورة الهائلة في تقنية المعلومات والاتصالات، بحيث أصبح الجمهور يبتعد عن الإعلانات التقليدية ويتجه للمحتوى الذي يريد في مواقع الصحف الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي. وهذا يجعل الإعلانات التقليدية مثل إعلانات الصحف وإعلانات المواقع الإلكترونية غير مجدية في التسويق حالياً».
بينما ترى الدكتورة مروة شميس، مدرسة العلاقات العامة والإعلان بالجامعة الكندية في مصر، أن «الإعلان الخبري أمر معترف به في كليات ومدارس الإعلام، وهو ممارسة يتدرب عليها طلاب الإعلام أكاديمياً، ولكن ما نراه حالياً هو نتاج لتطور المحتوى الإعلامي الذي انتقل من الوسيط المطبوع إلى الإلكتروني، ومع ذلك فالقاري غير مجبر على قراءة هذا المحتوى الإعلاني إلا باختياره».
وتعتقد مروة شميس في حديثها لـ«الشرق الأوسط»، «أن المحتوى الإعلاني لا يمكن منعه لأنه يدر دخلاً على المواقع والصحف الإلكترونية إلا إذا كان يضر بالجمهور سواء كان يروج لسلعة وهمية أو يسيء لفئة من فئات المجتمع أو يتنافى مع القيم، في هذه الحالات فقط يتم سحب الإعلان لكن يظل نشر هذه الإعلانات يفتقر بكل تأكيد للمصداقية، خاصة أن الأخبار والتقارير عن ظاهرة (الأخبار الكاذبة)، فالصحافيون باتوا لا يتحققون من الأخبار فما بالنا بالإعلانات».