باريس مستمرة في جهودها الدبلوماسية لاحتواء التوتر في الخليج

رغم العطلة الصيفية التي بدأها الأربعاء الماضي، والتي من المفترض أن تستمر حتى 21 الجاري، ما زال الرئيس الفرنسي يضاعف اتصالاته بشأن الملف النووي الإيراني، ساعياً لخفض التوتر بين واشنطن وطهران. وفي الأيام الأخيرة تواصل ماكرون هاتفياً مع الرئيسين الروسي والأميركي، فلاديمير بوتين ودونالد ترمب. واللافت أن ماكرون «تجاوز» التهجم الذي استهدفه من قبل الرئيس الأميركي، ووصل إلى حد التجريح الشخصي؛ إذ إن ترمب وصف قرار باريس فرض ضرائب على الشركات الرقمية الكبرى وعلى رأسها الأميركية، بأنه يعكس «غباء ماكرون».
ويوم الثلاثاء الماضي، تواصل ماكرون «مطولاً» بحسب الإليزيه، وللمرة الرابعة في الأسابيع القليلة المنقضية، مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، الذي أرسل إليه مرتين السفير إيمانويل بون، كبير مستشاريه الدبلوماسيين، كما تلقى رسالة مكتوبة من روحاني نقلها إلى باريس نائب وزير الخارجية عباس عراقجي.
وآخر الاتصالات الرئيسية التي قام بها ماكرون تم الأربعاء، مع ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد. وكان الملف الإيراني على رأس الموضوعات التي بحثها المسؤولان، وفق ما صدر عن القصر الرئاسي الفرنسي الذي أضاف إليها «المسائل الإقليمية».
وتقول المصادر الفرنسية إن هدف باريس من «الحراك» الدبلوماسي المتواصل الذي يقوم به أساساً الرئيس ماكرون، ووزير الخارجية جان إيف لودريان، رغم العطلة الصيفية، واحد لم يتغير، وهو «البحث عن الشروط التي من شأنها وقف التصعيد السياسي والميداني، عن طريق بادرات متوازية إيرانية وأميركية، تتيح في مرحلة أولى تجميد الوضع، وتمهد في مرحلة ثانية لعودة المفاوضات مع كافة الأطراف». لكن يبدو أن الجهود الفرنسية المدعومة أوروبياً، وتحديداً من ألمانيا وبريطانيا: «لم تفضِ بعد إلى نتائج ملموسة». والدليل على ذلك أن واشنطن التي علقت في وقت سابق العقوبات التي أرادت فرضها على وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، عادت للعمل بها، الأمر الذي يعكس، وفق باريس، استمرار النهج الأميركي القائم على «ممارسة أقصى الضغوط»؛ ليس فقط الاقتصادية والتجارية والمالية والنفطية، وإنما أيضاً على الشخصيات الإيرانية، بمن فيها تلك التي ينظر إليها غربياً على أنها من «الوجوه المعتدلة».
ثمة استحقاق رئيسي على الأجندة الدبلوماسية الفرنسية، وعنوانها موعدان: الأول، القمة الثنائية المرتقبة في 19 الجاري بين ماكرون وبوتين، والتي ستحصل في منتجع الأول المسمى «حصن بريغونسون» في جنوب فرنسا، المطل على مياه المتوسط. والثاني وهو الأهم؛ لأنه يضم الرئيس ترمب، عنوانه قمة الدول السبع التي تستضيفها باريس هذا العام، والتي ستلتئم في منتجع بياريتز الأطلسي (جنوب غرب).
وتريد باريس الاستفادة من هذين الموعدين لدفع الملف الإيراني إلى الأمام. وبحسب المصادر الفرنسية، فإن باريس تبدو «الأكثر أهلية» اليوم، للعب دور «الوسيط» بين طهران وواشنطن، وقد سعت دوماً إلى «إمساك العصا من وسطها» حتى تبقى قادرة على التحدث إلى الطرفين، وطرح مقترحاتها التي أصبحت إلى حد بعيد معروفة.
وتريد باريس التي تبقى من أشد المتمسكين بالاتفاق النووي المبرم صيف عام 2015، «انتزاع» تنازلات من الطرفين الإيراني والأميركي. وكانت الأمور قد حققت تقدماً، إلا أن عملية توقيف ناقلة النفط الإيرانية في جبل طارق التابعة إدارياً لبريطانيا، ورد طهران عليها باختطاف ناقلة ترفع العلم البريطاني، زادت الأمور تعقيداً. وبحسب النظرة الفرنسية، فإن هذه التطورات التي تعكس تصعيداً خطيراً في مياه الخليج، أزاحت الانتباه عن الملف الأساسي، وهو مصير الاتفاق النووي، وكيفية المحافظة عليه، واعتباره أساساً يتعين استكماله بمفاوضات تتناول مستقبل البرنامج النووي الإيراني لما بعد عام 2025، إضافة إلى تحجيم برنامجها الصاروخي - الباليستي. ولذا، فإن العمل الدبلوماسي يتناول أولاً كيفية «تسوية» مسألة الناقلتين بـ«التقسيط» أو دفعة واحدة. إلا أن رفض لندن، على لسان وزير خارجيتها الجديد دومينيك راب الإفراج «المتزامن» عن الناقلتين «لا يسهل» مهمة باريس التي رفضت تشكيل قوة بحرية بقيادة أوروبية، بحسب ما اقترحته لندن، كما أنها رفضت المشاركة في التحالف الدولي الذي تسعى واشنطن لإقامته.
هذه المواقف الفرنسية «المتساهلة» إزاء طهران، معطوفة على المواقف التي التزمت بها باريس في إطار الاتحاد الأوروبي، واعتبارها أن «انتهاكات» طهران حتى اليوم للاتفاق النووي ليست «بالغة الخطورة» ويمكن التراجع عنها، يراد منها إبقاء التواصل مع الجانب الإيراني قائماً، وتمكينها من المطالبة بـ«مقابل». وهذا «المقابل» عنوانه الأول امتناع طهران عن تنفيذ تهديداتها بالتخلي عن بنود إضافية من الاتفاق النووي و«تجميد» انتهاكاتها الأولى، وهي زيادة كمية اليورانيوم ضعيف التخصيب، وتخطي نسبة التخصيب المتاح لها.
أما من الجانب الأميركي، فإن باريس تريد تساهلاً أميركياً في تصدير النفط الإيراني، إما عن طريق تجديد السماح لعدد محدود من البلدان بشراء النفط الإيراني، وإما من خلال الآلية المالية التي يعمل الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً فرنسا وألمانيا وبريطانيا، على تفعيلها في الأسابيع القادمة.
ورغم الانتقادات الإيرانية لهذه الآلية، وآخرها ما صدر عقب اجتماع فيينا يوم الأحد الماضي عن المسؤولين الإيرانيين، فإن الرئيس الفرنسي وعد نظيره الإيراني في آخر اتصال لهما، بالإسراع في فتح اعتماد مالي يسهل لإطلاق الآلية عملياً. وتراهن فرنسا على أن لا واشنطن ولا طهران يريدان المواجهة لأسباب خاصة بكل طرف، رغم التصريحات عالية النبرة والتهديدات المتبادلة.
في إطار هذه الصورة المعقدة، تراهن باريس على أن لا أحد يملك «حلاً سحرياً»، وأن الأهم «تبريد» الوضع لتلافي أي احتكاك من شأنه إشعال الوضع، ولاحقاً بلورة الظروف التي من شأنها تسهيل إطلاق مسار تفاوضي، بعيداً عن الشروط المتبادلة التي يفرضها كل طرف.
وفي أي حال، فإن هذه المراحل اللاحقة تبدو أكثر تعقيداً من المرحلة الحالية. وتذكر مصادر أوروبية متابعة للملف الإيراني، أن اتفاق 2015 تم التفاوض حوله طيلة عشر سنوات.