الإعلاميون... ومعضلة الرأي والخبر

يحفل تاريخ الإعلام العالمي بصحافيين خلطوا بين مواقفهم وآرائهم الشخصية من جانب، وبين التزاماتهم المهنية من جانب آخر، وبسبب هذا الخلط وقعت أحداث مؤسفة، وتم ارتكاب مخالفات، وأحياناً جرائم.
يسود انطباع قوي بين أوساط الإعلاميين والصحافيين حول العالم، مفاده أن مهنتهم هي «مهنة الرأي»، حتى إن عدداً من نقابات الصحافيين في بلدان مختلفة يُسمي نفسه هكذا: «نقابة أصحاب الرأي»، وهو أمر يحتاج إلى مراجعة وضبط.
بالنسبة إلى الصحافة، فهي مهنة تجمع بين نمطين من أنماط الأداء: أولهما هو الخبر، وثانيهما هو الرأي، ومن الضروري أن يتم تقديم كل منهما بمعزل عن الآخر، ومن اللازم أن يتم إعلان طبيعة كل منهما عند التعامل مع الجمهور؛ لأن «خلط الرأي بالخبر» هو أحد أخطر أنماط الانحياز في العمل الصحافي. وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فإن ثمة قيوداً ذات اعتبار ووجاهة تؤطر تعبير الصحافي عن رأيه، حتى لو كان هذا التعبير خارج سياق عملية تقديم الأخبار.
ولتوضيح هذه المسألة، يمكننا أن نستعرض عدداً من الوقائع التي فجرت أسئلة وأثارت جدلاً في أكثر من نظام صحافي على مستوى العالم؛ ومن ذلك تلك المشكلة التي وقعت في شهر مايو (أيار) الماضي، والتي أدت إلى طرد المذيع داني بيكر من عمله في «بي بي سي»؛ لأنه تهكم على الأصول العرقية للأميرة ماركل، عبر حسابه في «تويتر».
أليس من حق بيكر أن يكون له رأي؟ أليس من حقه أن يدلي برأيه على مساحته الخاصة في وسائط التواصل الاجتماعي؟ أيحق لـ«بي بي سي» أن تعاقبه بطرده من عمله؟
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، كانت المذيعة الروسية تاتيانا ليمانوفا تقرأ النشرة، في إحدى القنوات الروسية، حينما ورد اسم الرئيس أوباما في معرض أحد الأخبار، وعندها عبرت ليمانوفا عن موقفها منه على الفور، عبر رفع أصبعها الوسطى، في حركة ذات دلالة لا تخفى على أحد.
لقد تم إيقاف ليمانوفا عن العمل، فهل كانت القناة التي أوقفتها عن العمل محقة في قرارها هذا؟
كانت إحدى المذيعات اللبنانيات تقرأ خبراً في نشرة تقدمها قناة لبنانية، قبل 12 عاماً، حين وصلت إلى معلومة مقتل أحد أعضاء تيار «14 آذار»، فما كان منها إلا أن تهكمت على مقتله، قائلة: «العوض بسلامته»، بل وزادت متمنية مقتل سياسي آخر من الفصيل ذاته، ليتم إيقافها عن العمل.
فهل يمكن قبول اعتذار هذه المذيعة لكونها «تحدثت بعفوية سياسية»، وأنها «لم تكن تعلم أنها على الهواء»، كما قيل آنذاك؟
يظل ما فعلته هذه المذيعة اللبنانية، على أي حال، أهون مما فعلته المذيعة الليبية هالة المصراتي، التي حاولت أن تعبر عن دعمها للعقيد معمر القذافي، قبل أن يتم إسقاط حكمه وقتله، فلم تجد وسيلة أفضل من رفع مسدس في وجوه المشاهدين، على الهواء مباشرة، مهددة بقتل كل من يتجرأ على المساس بـ«ملك ملوك أفريقيا».
إن تلك الوقائع التي يتورط الصحافيون خلالها في التعبير عن مواقفهم وآرائهم لا تنقطع أبداً؛ ومنها تلك الواقعة التي حدثت في عام 2010، حين أصدرت شبكة «سي إن إن» بياناً نادراً من نوعه، قالت فيه إن مقدم البرامج الشهير ريك سانشيز لم يعد يعمل معها؛ لأنه أدلى بتصريحات فُهم منها أنه يجرح مشاعر المواطنين اليهود؛ بعدما أثارت تصريحاته كثيراً من الانتقادات له وللمحطة، استناداً إلى أن حرية التعبير التي يكرسها التعديل الأول في الدستور الأميركي لا تعني أبداً «تجريح الجماعات العرقية والدينية».
فهل يحق لـ«سي إن إن» أن تحاسب سانشيز على تصريحاته؟
تعطينا المصورة الصحافية المجرية بيترا لازلو مثلاً مهما على هذا الخلط الشائع، إذ كانت محوراً لاهتمام كثيرين في سبتمبر (أيلول) 2015، بعدما قامت بفعل مثير للجدل.
فقد كانت لازلو تنقل لمحطة التلفزيون المجرية «إن وان تي في» وقائع إلقاء الشرطة القبض على بعض اللاجئين السوريين، الذين حاولوا دخول البلاد بطريقة غير شرعية. وفيما كانت تصور الوقائع المثيرة، لاحظت أن لاجئاً سورياً ونجله الطفل استطاعا الفرار من أيدي رجال الشرطة، فما كان منها إلا أن قامت بعرقلته، ليسقط الرجل فوق طفله، ويتم إلقاء القبض عليه. لم تكتف المصورة المجرية بذلك؛ بل قامت أيضاً بعرقلة طفلة كانت في طريقها للنجاة من القبض عليها، مما أعاق فرصتها لعبور المجر إلى بلد آخر يقبلها كلاجئة.
فإلى أي حد كانت لازلو مهنية؟ وهل يُعد دعم القطاع الغالب بين جمهور القناة التي تعمل لها لتصرفها، مسوغاً لقيامها به؟
يحق لكل صحافي أو إعلامي يعمل في صناعة الأخبار أن يمتلك رأياً؛ لكن تعبيره عن هذا الرأي يجب أن يتم وفق شروط معينة: أولها ألا يؤثر في ثقة الجمهور في مهنية الوسيلة التي يعمل لها وموضوعيتها؛ خصوصاً إذا كانت وسيلة إعلام عمومية، أو تَدَّعي لنفسها الحياد والموضوعية، وثانيها ألا يخرق هذا التعبير قانوناً نافذاً أو معياراً من معايير حقوق الإنسان التي ترسيها العهود الدولية، وثالثها ألا يتم تقديم هذا الرأي في صورة «خبر»، أو «حقيقة»، أو «ما يجب أن يؤمن به كل متدين أو وطني أو إنسان».
لا يمكن لعاقل أن يتصور مطالبة الإعلاميين بتجريد أنفسهم من الآراء الشخصية والتخلي عن المواقف السياسية؛ خصوصاً في الأوقات الحرجة التي تشتعل فيها الأحداث؛ لكن لا يمكن أيضاً أن نقبل أن يحارب الإعلاميون بالأخبار، وأن يُحمِّلوا وسائلهم أعباء مواقفهم الشخصية، وأن يخلطوا بين عملهم في إعلام الناس وبين آرائهم التي تظل - في جميع الأحوال - محل اختلاف أو تباين، ولا يمكن تقديمها بوصفها حقائق مطلقة.