هل تبخرت الخطوط الحمراء للصحافة السودانية بعد سقوط البشير؟

تعرضت الصحافة السودانية لضغوط كبيرة خلال سنوات حُكم الرئيس السابق عُمر البشير، نتيجة تحكم الأجهزة الأمنية في مهام الصحافيين، بداية من تحديد قوائم بموضوعات محظور تغطيتها حتى عقاب المخالفين بالسجن أو مصادرة الصحيفة.
وعقب سقوط البشير، تحسنت الأوضاع، خصوصاً على مستوى حرية تغطية القضايا السياسية، والقدرة على تناول موضوعات كان محظوراً نقاشها، مع استمرار بقاء بعض الخطوط الحمراء من دون تغير.
يقول الصحافي السوداني عمار عوض إن وضع الصحافة السودانية «تحسن كثيراً» في مناقشة القضايا السياسية اليومية، مثل مراحل التفاوض بين القوى السياسية على الساحة السودانية الآن، لكن حرية النشر تبقى نسبية، خصوصاً فيما يتعلق بكشف فساد النظام البائد والتطرق لجرائمه.
ويُضيف عمار في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن هناك قيوداً جديدة حول عمل الصحافيين الذي يتضمن أي نقد موضوعي للمؤسسة العسكرية أو قوات الدعم السريع، مستشهداً بواقعة إعفاء رئيس تحرير صحيفة «الصيحة» الخاصة، عبد الرحمن الأمين، بعدما قدم انتقاداً للجيش في إحدى الفضائيات، فتم إعفاؤه من منصبه.
ولم تنقطع العلاقة تماماً بين الصحافة السودانية والمجلس العسكري الحاكم بعد الإطاحة بالبشير.
والتقي عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي، لأول مرة، رؤساء تحرير الصحف السودانية، وعدداً من الرموز الإعلامية، داخل مبني وزارة الدفاع، في 29 يونيو (حزيران) الماضي، للكشف عن خطط المجلس، ونتائج جلسات الحوار مع قوى الحرية والتغيير.
ويتفق خالد ماسا، وهو مدير صحيفة «المُشاهد» الإلكترونية، مع الطرح السابق، قائلاً: «هناك تغير كبير بعد سقوط البشير في الجرأة في نقاش بعض القضايا، وتراجع التدخلات الأمنية في مُصادرة الصحف أو اعتقال صحافيين، كما كان يجري أيام البشير، حال الكتابة عن بعض القضايا».
وعلى رأس هذه القضايا حرب دارفور، والمُذكرة الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية باعتقال البشير، فضلاً عن تغطية أي قضية تتصل بأسرة الأخير «بسوء»، مثل استثمارات بعض أشقائه، والامتيازات الممنوحة لهم.
وتشمل قائمة الموضوعات المحظور نقاشها في عهد البشير مهام القوات المسلحة كافة، وأنشطتها التجارية، وانتهاكات جهاز الأمن «غير المسموح» بتناولها، وأخيراً التعديلات الدستورية التي أقرها البشير لتمديد فترة حُكمه، وفقاً لماسا.
وكان جهاز الأمن يقوم بما يسمي «الرقابة القبلية» على الصحف، عبر إرسال أفراد من جهاز الأمن للاطلاع على الصحف قبل إرسالها للمطبعة، وهؤلاء الأفراد الذين لا علاقة لهم بالإعلام يحددون ما ينشر وما لا ينشر.
ويُعد جهاز الأمن والاستخبارات الجهة المنوط بها التعامل مع الإعلام، وفقاً لماسا الذي يضيف أن الأخير كان يُرسل أفراداً من جهاز الأمن للاطلاع على الصحف قبل إرسالها للمطبعة، و«هؤلاء الأفراد الذين لا علاقة لهم بالإعلام هم الذين يحددون ما ينشر وما لا ينشر»، وفقاً لشهادات 3 صحافيين تحدثوا لـ«الشرق الأوسط».
ويصف ماسا الحديث عن الجيش السوداني، وتسليحه، وعلاقته بالبشير خلال فترة حُكمه، بـ«المنطقة المُظلمة للإعلام»، وهي القضية التي ما زالت من الممنوعات في المرحلة الحالية.
غير أن تعرض برنامج ماسا الذي كان يبثه على التلفزيون الحكومي للإيقاف، بعد حلقة واحدة فقط، وجه خلالها وضيوفه انتقادات «حادة» للمجلس العسكري، جعلته يدرك أن نقد قادة المجلس من «الخطوط الحمراء الجديدة» في الصحافة.
وكانت بعض الأخبار المنشورة في عدد من الصحف السودانية قد أشارت إلى بقاء أفراد أسرة البشير داخل منازلهم إلى الآن رهن إقامة جبرية، ونفت ذلك بيانات للمجلس العسكري حول اعتقال عدد من قادة نظامه المتورطين في قضايا فساد مالي وسياسي.
العلاقات الخارجية
وامتدت الخطوط الحمراء خلال عهد البشير من القضايا المحلية إلى الخارجية، وهو ما يوضحه الصحافي السوداني محمد الفاتح همة، العامل بصحيفة «الجريدة» المستقلة.
ويؤكد همة أن علاقات السودان الخارجية كانت من القضايا التي تخضع لتعليمات البشير. على سبيل المثال، كانت الأجهزة الأمنية السودانية تمنع انتقاد الحكومة المصرية أيام تحسن العلاقات، لكن بعد توتر العلاقات مع القاهرة، في الشهور الأخيرة، طلبت أجهزة الأمن من الإعلام توجيه أسهمه لانتقاد الحكومة المصرية.
ولم تشمل الخطوط الحمراء للصحافة السودانية في عهد البشير بعض وزراء حاكم السودان السابق. ويقول همة إن البشير ترك «هامشاً» للصحف لانتقاد أداء الوزراء، والتظاهر في بعض الحالات بالتجاوب مع بعض ما تنشره هذه الوسائل بقرارات حكومية بإقالة المسؤول أو إحالته للتحقيق، وهو ما يراه همة نوعاً من «الذكاء» في احتواء الرأي العام قبل انفجار الأوضاع، واندلاع المظاهرات ضده.
وتحتل السودان، حسب «مؤشر حريات الصحافة» الذي تصدره «منظمة مراسلون بلا حدود» غير الحكومية للعام الماضي، المركز 174 من المؤشر البالغ 180.
ونددت المنظمة الحقوقية المتخصصة في الدفاع عن حرية الإعلام أكثر من مرة بالمحاولات المستمرة لـ«تكميم» الصحافة في السودان، عبر اعتقال صحافيين أو مُصادرة الصُحف من جانب أجهزة الأمن والاستخبارات.

تضييق إعلاني
وكانت إحدى الوسائل التي لجأت لها السلطات خلال عهد البشير للتضييق على الصحيفة التي يعمل بها «همة» ممارسة ضغوط على شركات الإعلانات لقطع التعاون معها، مقابل استحواذ الصحف المؤيدة له على الحصة الأكبر من الإعلانات، وذلك «بالأمر المباشر» من البشير، لدعمها مالياً بشكل غير مُباشر.
وإلى جانب الصحيفة التي يعمل بها همة، تبرز أسماء صحف أخرى دأبت على انتقاد نظام البشير، كصحيفة «الميدان» التابعة للحزب الشيوعي، و«أخبار الوطن» التابعة لحزب المؤتمر المعارض، وصحيفة أخرى مستقلة هي «الجريدة» التي صادرتها أجهزة الأمن أكثر من مرة.
في المقابل، يوجد عدد من الصحف التي أيدت نظام البشير، وامتلكها رجال أعمال من أعضاء الحزب الحاكم السابق.
ويُفسر همة ترك البشير لهذا الهامش من منظور آخر له علاقة بتفضيله سياسة عدم امتلاك السلطات لوسيلة إعلامية، وترك الأمر لرجال أعمال داعمين وأعضاء في الحزب الحاكم، مع حرية نسبية لهذه الوسائل في تغطية قضايا الفساد، ونقد الوزراء الحكوميين، لمنحها بعض من المصداقية والشعبية عند المواطن، فضلاً عن تبرئة نفسه من السيطرة على الإعلام.
وكان أشقاء البشير قد أثروا في المشهد الإعلامي، عبر امتلاكهم لصحيفة «الرأي العام» التي تحولت للصحيفة «الرسمية» للنظام أيام البشير، عبر مجموعة صحافيين داعمين للنظام، وفقاً للفاتح.

تأثير كبير
من جانبه، يقيم ضياء الدين بلال، رئيس تحرير صحيفة «السوداني»، حالة الصحافة في عهد البشير قائلاً: «الحريات الصحافية كانت متقلبة (في عهد البشير)، مُتأثرة بالظرف السياسي للسلطة، وكان هناك هامش دوماً لنقد السلطات، وهو ما جعل للصحافة تأثير كبير في تشكيل الرأي العام».
وبلال كان الوحيد بين الصحافيين السودانيين الذي اختصه عبد الفتاح برهان، العسكري الانتقالي، بحوار تلفزيوني وصحافي.
ومع عزل البشير، وسجن أغلب قادة نظامه، يرى بلال وجود بعض «التجاوزات» من جانب الصحف، وهو ما وصفه بـ«الفوضى الصحافية».