«إرباك» سياسي في فرنسا بعد العثور على صواريخها مع قوات حفتر

آخر ما كانت تتوقعه السلطات الفرنسية هو الإرباك، الذي تسبب به العثور على صواريخ مضادة للدبابات، أميركية الصنع، في موقع كان تابعا لقوات المشير الليبي خليفة حفتر في مدينة غريان «جنوبي طرابلس»، أخرجت منه بفعل عملية عسكرية لقوات موالية لحكومة الوفاق الوطني، التي تقول باريس علنا إنها تحظى بدعمها.
الإرباك الرسمي الفرنسي كان واضحا بجلاء في غموض التبرير والتفسير، اللذين تكفلت بهما وزارة الدفاع. فقد بدا واضحا أمس أن الحجج والذرائع التي جاءت على لسان المسؤولين لم تكن مقنعة تماما، والدليل على ذلك التعليقات الصحافية التي وضعت الأصبع على التناقضات المتضمنة في الرواية الرسمية. والأسوأ من ذلك أن ما كشفت عنه صحيفة «نيويورك تايمز» لم تكتمل فصوله بعد، ولا شك أنه ستكون له تداعيات في السياسة الخارجية الفرنسية، خاصة أن باريس كانت تعلن وتؤكد رسميا حيادها في الأزمة الليبية، وتنفي وقوفها إلى جانب حفتر، وتشدد على دعمها للوساطة الأممية، ممثلة بالمبعوث الدولي الوزير اللبناني السابق غسان سلامة. كما كانت تظهر قدرتها على الحديث إلى الطرفين، ولعب دور الوساطة بينهما. إلا أن آخر التطورات تبين أن تداعيات هذه المسألة لن تنتهي بصدور بيانين عن وزارة الدفاع، أو بنفي الادعاءات والمزاعم، التي تتهم باريس بالوقوف وراء حفتر ومده بالسلاح.
بيد أن اللافت في الداخل الفرنسي هو غياب الأصوات السياسية، خصوصا المعارضة من اليمين واليسار، التي تناولت هذا الملف. وتقول مصادر سياسية فرنسية إن مرد ذلك لوجود «شبه إجماع» داخلي على السياسة الخارجية، وعلى ضرورة الامتناع عن الخوض في المسائل العسكرية، خصوصا إذا كانت تتعلق بعمل أجهزة المخابرات أو القوات الخاصة. والأدلة على ذلك عديدة: فالكشف عن وجود عناصر من القوات الخاصة في الشرق الليبي إلى جانب قوات حفتر لم يخرج إلى العلن إلا بعد سقوط طوافة، ومقتل ثلاثة من أفراد القوة الفرنسية في 20 من يوليو (تموز) عام 2016 قرب بنغازي. ووجود عناصر من المخابرات الخارجية في الغرب الليبي لم يتم كشف النقاب عنه إلا عندما أوقف الأمن التونسي مجموعة من الفرنسيين لدى عبورهم الحدود مع أسلحتهم أواسط أبريل (نيسان) الماضي، أي بعد انطلاقة العملية العسكرية للمشير حفتر بغرض السيطرة على طرابلس. وواضح اليوم في فرنسا أن تداعيات هذه المسألة الجديدة لن تنتهي مع آخر بيان لوزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي، الذي أكدت فيه أن الصواريخ الأربعة من طراز «جافلين»، «لم تكن بين أيادٍ ليبية»، وأن قول عكس ذلك يجافي الحقيقة.
ويبدو أن همّ باريس الأول الآن هو ألا تتهم بمخالفة قرارات مجلس الأمن الدولي، التي تمنع إيصال السلاح إلى ليبيا، والتدخل في الشأن الليبي. أما همها الثاني فهو دفع تهمة مساندة حفتر عسكريا لأن ذلك يهدم صورتها كوسيط، وكطرف محايد في النزاع الليبي. وإذا كانت باريس قد اعترفت سابقا بأنها دعمت حفتر استخباراتيا، فإنها وضعته في إطار محاربة الإرهاب، وبسبب حرصها على ألا تتحول ليبيا إلى ملجأ للقاعدة و«داعش» والتنظيمات الإرهابية. ولا يخفى أن لفرنسا مصالح خارجية، وأنها حريصة على استقرار بلدان شمال أفريقيا وأمن بلدان الساحل المهدد، حيث تنشط القوات الفرنسية في محاربة هذه التنظيمات في إطار «عملية برخان»، المنتشرة في مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو.
وإذا كانت الشروحات والتبريرات الرسمية الفرنسية لم تفض إلى اقتناع الداخل الفرنسي بها، رغم غياب الأصوات المعارضة، فإنها لم تقنع الخارج أيضا. فوزير خارجية حكومة الوفاق الليبية محمد طاهر سيالة بعث برسالة إلى نظيره جان إيف لو دريان، يطالبه فيها بـ«بتوضيح الآليّة التي وصلت بها الأسلحة الفرنسيّة التي عُثِر عليها في غريان إلى قوّات حفتر، ومتى تمّ شحنها وكيف سُلِّمت». كما طالب سيالة بـ«معرفة حجم هذه الأسلحة، التي يتنافى وجودها مع ما تصرِّح به الحكومة الفرنسيّة في المحافل الدوليّة واللقاءات الثنائيّة بدعم حكومة الوفاق الوطني، باعتبارها الحكومة المعترف بها دولياً».
ومجددا، أكدت وزيرة الدفاع الفرنسية أمس أن سبب وجود هذه الأسلحة كان بهدف «حماية العناصر الفرنسيين، الذي كانون يقومون بأعمال استخبارات في إطار مكافحة الإرهاب»، مشيرة إلى أن «هجمات عدة لـ«داعش» وقعت في ليبيا، بما في ذلك في وقت قريب جدا». وبحسب بارلي، فإن هذه الصواريخ «تم تعطيلها، ولذلك كانت مخزنة في مكان يتيح السماح بتدميرها».
وسبق لوزارة الدفاع الفرنسية أن أعلنت أول من أمس أن هذه الأسلحة «كانت تهدف إلى توفير الحماية الذاتيّة لوحدة فرنسيّة نشرت لغرض استطلاعي في إطار مكافحة الإرهاب». مضيفة أنه «لم يكن مطروحاً بيعها أو تسليمها أو إعارتها أو نقلها لأي كان في ليبيا».
ومنذ مجيء الرئيس الفرنسي ماكرون إلى السطلة قبل عامين، سعى للعب دور في الأزمة الليبية. وقد برز ذلك من خلال تنظيم قمتين «في صيف 2017 وربيع 2018»، جمع فيهما المشير خليفة حفتر ورئيس حكومة الوفاق فائز السراج. وكان غرض الدبلوماسية الفرنسية من هذه الخطوة إظهار قدرتها على التحرك والتوسط وطرح الحلول. وبينما كانت أبواب الغرب مقفلة بوجه حفتر، ساهم ماكرون في تأهيله وجعله «جزءا من الحل». كما سعت باريس بعد ذلك، أقله علنا، إلى تعديل موقفها، وتأكيد أنها تقف إلى جانب الحكومة المعترف بها دوليا. إلا أن وساطتها لم يتوافر لها الدفع السياسي الكافي، ما حملها على الوقوف وراء المساعي الدولية. وبعد إطلاق عملية طرابلس دعت فرنسا رسميا إلى وقف المعارك «بلا شروط مسبقة»، وإلى الحل السياسي الجامع ومساندة الجهود الأممية. لذا فإن موضوع الصواريخ الأربعة الأميركية الصنع يحدث شرخا في صورة باريس، ومن شأنه أن يعوق لاحقا جهودها، ويوفر لخصومها في الخارج أوراقا للتنديد بالدور الذي تلعبه في ليبيا.