«الفيتشر»... فن التعبير عن الحدث بجذوره التاريخية

لا تخلو أي صحيفة أو موقع إخباري من موضوعات «الفيتشر» التي يُفضلها كثير من الصحافيين، لأنها تفتح الباب أمامهم للتجديد والابتكار، بعيداً عن النمطية في كتابة المادة الصحافية. ولكن لا يعي الكثيرون القواعد الأسلوبية التي تحكم كتابة هذا النوع الإبداعي من الموضوعات، حيث يرى أساتذة الصحافة وأصحاب الخبرة أن فن «الفيتشر» هو «فن كتابة القصة، الذي يوظف فيه المحرر تقنيات السرد الروائي لتبسيط الموضوعات من ناحية، وبيان سياقها الزماني والمكاني من ناحية أخرى. وقد أسهمت كُتب الرحلات والمذكرات في توسيع أفق الكتاب، فسمحت لهم بإظهار صوت بطل القصة داخل النص، مع إبراز المفارقات الدرامية في سياق الأحداث من أجل جذب انتباه القراء».
بدوره، أوضح الدكتور المهدي الجندوبي، الأستاذ المساعد بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار بجامعة منوبة في تونس، أن «الفيتشر» مصطلح باللغة الإنجليزية يستعمل في أدبيات الصحافة استعمالاً واسعاً للدلالة على الموضوعات الصحافية التي لا تتقيد بالأحداث الجارية، ولا تقتصر على الأطراف الفاعلة التقليدية، التي تتناولها الأخبار مثل الشخصيات العامة والمؤسسات؛ بل تهتم موضوعات «الفيتشر» بدرجة كبيرة بالأبعاد الإنسانية وبكل أوجه الحياة اليومية، ولا تلتزم بقالب الهرم المقلوب أو الأسلوب الإخباري الصارم ولكن تميل إلى توظيف المهارات الأدبية.
ووفق هذا التعريف، فقد يكون «الفيتشر» قصة إنسانية أو «بروفايل»... والموضوع الواحد يصلح تنفيذه من خلال التغطية الإخبارية العادية، أو بأسلوب «الفيتشر»، أو استغلال الجانب الإنساني، والطريف في القصة.
وأضاف الجندوبي لـ«الشرق الأوسط» أنه «يجب على المحرر أن يسلط الضوء على الأشخاص أكثر من الأشياء المُجردة»، ويتميز «الفيتشر» بحرية كبيرة في الموضوعات التي يتناولها الصحافي، فيمكن إعداد موضوعات متنوعة حول «أهم الأحداث لحقبة تاريخية محددة»، و«موضوع تاريخي مع إضافة جديدة»، و«تقديم شخصية مغمورة للتعريف بها (بروفايل)»، و«تقديم شخصية لها علاقة أسرية مع شخصية مرموقة قديمة (حفيد، أرملة، إلخ ...)»، و«تقديم مكان معين مع التركيز على التغييرات التي شهدها هذا المكان»، و«قصص واقعية أو طريفة»، و«مواضيع موسمية (أعياد، مناسبات متكررة)».
وبالنسبة للقالب الفني لـ«الفيتشر»، يذكر الجندوبي أن «هناك أنواعاً كثيرة لمقدمات قصص (الفيتشر)»، فقد تكون «مقدمة إخبارية تلخيصية» تلخص أهم عناصر الموضوع ويتم تفصيلها في جسم القصة الصحافية لاحقاً، أو «مقدمة الحدث الدال»، التي تبرز حدثاً له وقع خاص أو وزن مهم على بقية مجرى القصة أو حياة الأشخاص المعنية، وهناك «مقدمة اقتباسية» تبدأ بجزء من تصريح الشخصية التي سيتعرف عليها القارئ لاحقاً، وهناك مقدمة السؤال التي تبدأ بسؤال تتم الإجابة عنه لاحقاً، و«مقدمة التشبيه» لتقريبها من إدراك القارئ وفهمه، وبعد ذلك يكتب المحرر موضوعاً ويسرد تفاصيله التي يفضل أن يكتبها بطريقة مشوقة لكي يُعايش القارئ شخوص وأحداث قصته حتى يتعاطف معهم أو يتخذ منهم العبرة أو يتعلم منهم دروساً للحياة.
ويقدم الجندوبي أمثلة عملية لكتابة قصص «الفيتشر» للصحافيين، قائلاً على سبيل المثال: «إذا أردت الحديث عن تجربة دمج المعوقين في المدارس، فيمكنك إبراز وجه لتلميذ من ذوي الاحتياجات الخاصة يستفيد من التجربة أو معلم يواجه تحديات كثيرة أثناء العمل... وإذا أردت الحديث عن الأسر المستفيدة من برنامج وزارة الشؤون الاجتماعية، فيمكنك إبراز حالة خاصة لامرأة استفادت من البرنامج، ووفرت دخلاً أسهم في تغيير مستوى معيشة أسرتها للأفضل».
«فن الفيتشر» كان محور رسالة ماجستير للباحث محمد خليل، المعيد في كلية الإعلام جامعة القاهرة، يناير (كانون الثاني) الماضي، بعنوان «علاقة التكوين المهني للقائم بالاتصال بمستويات توظيف وأساليب كتابة فن الفيتشر في الصحف الخاصة اليومية»، وحلل الباحث مواد «الفيتشر» المنشورة في صحف «الوطن»، و«المصري اليوم»، و«الشروق»، وذلك خلال عامي 2013 و2014.
وأشارت نتائج الرسالة إلى أن «القصة الإنسانية، والبروفايل» من الأنماط الأكثر شيوعاً بين الصحافيين الذين شملتهم عينة الرسالة، وأن «المقدمات الوصفية والسردية» هي أكثر الأنواع استخداماً وتفضيلاً لدى المحررين. وقد أظهرت النتائج أن محرري قصص «الفيتشر» بصحيفتي «المصري اليوم»، و«الوطن» هما أكثر المحررين الذين يصيغون الجمل بالأسلوب الأدبي القصصي الذي يعتمد على الجملة الاسمية دون الفعلية.
يقول خليل لـ«الشرق الأوسط»: «تعود بدايات فن (الفيتشر) إلى عام 1980 في الصحف الاقتصادية الأميركية، فقد اكتشف كثير من المحررين أن الموضوعات ذات الصبغة الأدبية مؤثرة في القراء بشكل كبير، وذلك بسبب مزج الدراما بالمعلومة، وإدخال شخصية الراوي (المحرر) بشكل أكثر وضوحاً في القصص الاقتصادية، فتمتعت بقراءة عالية، لأنها تهتم بالنزعة البشرية الإنسانية وليست الرقمية البحتة، ما أسهم في تقديم المعلومات بشكل أكثر سلالة لأنها تقدم في قالب قصصي».
وعرف توماس برنر «الفيتشر» بأنه «فن صحافي يعتمد على المزج بين أدوات الكتابة الأدبية، والتغطية المتعمقة والتفصيلية، ويجب أن يجيد المحرر توظيف أدوات السرد، وبناء المشاهد، وعرض وجهات النظر إزاء الموضوع، واستخدام الدراما الجيد داخل النص، والتنظيم الزمني المتتابع للأحداث، مع الاهتمام بوجود الإيقاع الخاص بتطور الأحداث داخل النص».
وعن القواعد الأسلوبية لكتابة قصص «الفيتشر»، ذكر خليل في رسالته مجموعة من القواعد الأسلوبية لتساعد الصحافيين في كتابة قصص «فيتشر» بأسس مهنية؛ القاعدة الأسلوبية الأولى هي توظيف «تقنية الوصف» في سرد الأحداث، فيجب أن يكون الكاتب مهتماً بذكر تفاصيل وتسلسل الأحداث وترتيبها، وتوصيف أجواء الحدث الشخصية أو العامة... والقاعدة الثانية، «تقنية الأزمنة المتتابعة في بناء القصة»، وهي من أهم أساليب بناء «الفيتشر»، فالصحافي يكتب موضوعه من خلال سرد المواقف والأزمنة المتتابعة، فيشعر القارئ بأنه مُحاط بالقصة التي يسردها له الكاتب، فيفهم كل أبعاد الموضوع، فالكاتب هنا يقوم بتأصيل الحدث من جذوره التاريخية، ثم يرصد الحاضر، ويطرح سيناريوهات مستقبلية، فالكاتب يخرج من قصته التي يقدمها للقارئ في لحظات معينة ليسرد له معلومات إضافية بقدر الإمكان ليكشف جوانب القصة وأبعادها في الماضي والحاضر، ويترك لخيال القارئ العنان لاستشراف مستقبلها... أما القاعدة الثالثة فهي «توظيف جمل الاقتباس داخل نصوص الفيتشر»، وذلك من أجل دعم نص المحرر، وإضفاء المفارقة النصية التي تصنع حالة درامية تجذب القارئ.
وحول فن «الفيتشر»، قالت الصحافية المصرية أمينة خيري: «يعتبر (الفيتشر) من أهم وأصعب الفنون الصحافية، لأنه يتطلب موهبة خاصة من الصحافي، فيجب أن يكون لديه حس صحافي وعين ثاقبة قادرة على التقاط الأفكار وبلورتها، كما ينبغي أن يتمتع الصحافي بأسلوب مبتكر في سرد قصته، فلا يقلد الكتاب البارزين في أسلوبهم الصحافي، وأن يحرص على التنويع بين الجمل الاسمية والفعلية في قصته، وأن تكون عباراته قصيرة ومباشرة، وأن يكون لديه مخزون من المفردات والتراكيب اللفظية التي ستميزه عن زملائه وتساعده في جذب انتباه القارئ، ويفضل أن يحكي المحرر قصته بطريقة غير متوقعة للقارئ».
وتضيف خيري: «تكمن أهمية (الفيتشر) في أنه من أهم دعائم الصحافة حالياً، نظراً لأن الأخبار أصبحت سلعة سريعة البوار، خصوصاً مع تداولها آلاف المرات في المواقع الإخبارية والقنوات الفضائية». وترى خيري أن «الفيتشر السياسي» أفضل أنواع «الفيتشر» لأنه يغطي جوانب سياسية واجتماعية متنوعة داخل الخبر السياسي.