عندما يُطالب ترمب بتحسين ذكائه

يشن الكاتب والأستاذ الجامعي الأميركي من أصل إيراني حميد دباشي، منذ الهجوم على ناقلتي النفط في خليج عُمان، حملة على إدارة الرئيس دونالد ترمب، وعلى حلفائها في الشرق الأوسط، مستخدماً خصوصا تهمة «الغباء» في وصف سياساتهم التي يرى فيها دعوة إلى الحرب على إيران.
دباشي، لمن لا يعرفه، واحد من المفكرين الجديين في الدراسات ما بعد الاستعمارية، وأحد الأسماء المرموقة في العالم الأكاديمي الغربي، وتميل مواقفه إلى تأييد حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، وهو أستاذ في جامعة كولومبيا، وله كثير من المؤلفات النقدية والسياسية والتاريخية، وأخرى تتناول علم الجمال والأدب الفارسي. بكلمات ثانية، ليس دباشي بشخصية يسهل تجاهلها عندما تكتب أو تبادر إلى اتخاذ مواقف في الشأن العام.
يدعو دباشي في صفحته على «فيسبوك» إلى عدم تصديق كلمة مما تقوله الإدارة الأميركية حول الاعتداءات على ناقلتي النفط في خليج عُمان، مشيراً إلى أن «التعامل مع إيران يتطلب نوعاً مختلفاً من الذكاء تفتقر إليه الولايات المتحدة»، رغم أنه يعترف أن الدولة الإيرانية ليست مجموعة من «المتفرجين الأبرياء». وكان في مقال نشره باللغة الإنجليزية مطلع الشهر الحالي، وبعد توجيه الاتهامات إلى إدارة ترمب، عبّر عن اشمئزازه من دعم حكام طهران للديكتاتورية الدموية في سوريا، معتبراً أنها من أبشع الأعمال التي قامت بها السلطة الإيرانية.
كل هذه المواقف تعيد إلى الذاكرة السلسلة الطويلة من الاعتراضات التي أبداها دباشي، والمؤسسة الأكاديمية الأميركية، والقسم الأكبر من اليسار الأوروبي والغربي، قبيل الغزو الأميركي للعراق: نظام صدام حسين مجرم ودموي، ولكن إسقاطه من الخارج لن يكون غير تدخل إمبريالي آخر يزيد أزمات المنطقة تعقيداً على تعقيد (مع استعادة للنكات والطرف عن غباء جورج دبليو بوش، وعدم فهمه مع إدارته لألفباء قضايا الشرق الأوسط). وهذا بالفعل ما حصل، بيد أن سلامة التحليل والتشخيص شيء، وحصر العلاج بالطلب إلى الغرب تقديم مقاربة «أذكى»، وتعادل مستوى ذكاء القيادة الإيرانية (المفترض) شيء آخر.
لا جدال في أن الهجوم الأميركي على العراق في 2003 كان «حرباً اختيارية»، حيث ثبت عدم امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل، وباتت صورة وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول حاملاً أنبوباً صغيراً يحتوي مسحوقاً أبيض في مجلس الأمن مثار سخرية العالم من حجم الأكاذيب التي حاولت إدارة بوش الابن ترويجها. وثمة فارق كبير بين صدام حسين المهووس ببقاء نظامه العائلي والحزبي، والنظام الإيراني الذي يتدخل في تركيبات المجتمعات العربية، مغذياً الانقسامات الطائفية والمذهبية، ومسانداً أنظمة لا تقل جنوناً عن نظام صدام، في إطار مشروع إمبراطوري لا مصلحة لشعوب المنطقة فيه.
عليه، لا تستقيم هنا دعوة دباشي، أو ما يعادلها، وكان من آخرها افتتاحية «نيويورك تايمز» في 14 من الشهر الحالي، التي لم تستبعد تورط «الحرس الثوري» الإيراني في هجوم خليج عُمان، لكنها دعت إلى حل تفاوضي مع إيران، وإلى تجاهل ترمب للصقور من مستشاريه. وليست قليلة الدوافع الداخلية والشخصية التي حملت ترمب على إلغاء الاتفاق النووي مع طهران، وما من سرّ في أن «إدارة ترمب تكذب كما تتنفس»، لكن الوضع الآن بات في مكان آخر لا ينفع معه تصوير القيادة الإيرانية على أنها خلاصة الذكاء والحنكة والحكمة، فيما يسيطر الغباء والانفعال على الطرف المقابل.
وبما أن الأزمة قد اندلعت، لأسباب تتعلق بترمب وإدارته وشخصيته، ولأسباب أخرى تشمل نواقص في الاتفاق النووي، فلتوضع كل الأوراق على الطاولة، ومن بينهما ورقة التدخلات الإيرانية في السياسات الداخلية العربية، ومحاولة فرض أمر واقع من خلال التلاعب بالتركيبات الاجتماعية والمذهبية في الدول العربية. رفضت إدارة باراك أوباما العمل في اتجاه اتفاق شامل مع إيران، ينطوي على عناصر خارج إطار البرنامج النووي الإيراني، فكانت النتيجة اتفاقاً هشاً تمكن ترمب من إسقاطه بجرة قلم، من دون أن يجد مقاومة حقيقية، سواء في المؤسسات السياسية والعسكرية الأميركية أو بين الحلفاء.
وتبدو تلك الانتقادات التي تحصر المذنب بـ«دعاة الحرب» الأميركيين و«صقور البيت الأبيض» وكأنها تأتي من مكان لا اعتراف فيه بالمآسي التي سببتها أنظمة الاستبداد والقمع والاغتصابات المنهجية، محلية الصنع، الداعية إلى مقاومة الاستكبار والصهيونية والرأسمالية العالمية.