خديجة الجهمي... المرأة التي قالت كل شيء

الحديث عن سيرتها يبدو مألوفاً، لكثرة ما قرأناه عن تاريخها الاجتماعي، ودورها النضالي والريادي في تحسين صورة المرأة، وقيادتها نحو التنوير الوسطي الذي لا يخرج بالمرأة عن طور الأخلاق، ولا يرميها في أتون الفجور والانحراف.
المرأة في مفهوم خديجة الجهمي، ومن خلال تاريخها السيرذاتي، هي كائن مقاوم ومشارك وعضو فاعل في بلد تغلبت فيه الحرب العالمية على رتم الحياة وأنساقها الطبيعية، فخرج منهكاً مرهقاً متعباً من حالة الاستعمار الإيطالي، وحاولت فيه خديجة الجهمي بجهد جهيد أن تتكلم بصوت عالٍ، ذلك الصوت الذي وصل مسموعاً إلى زعيم إيطاليا بيبيتو موسوليني، من خلال رسالة أرسلتها له بكل جرأة وشجاعة نادرة، جاء فيها: «أنا معجبة بك كونك تريد أن توحد بلادك، لكن احتلالك لبلادي غير صحيح، ولا بد أن تفكر كثيراً كي تترك ليبيا لأهلها وتخرج منها، وإلا فسيأتي يوم سيكون جحيماً على إيطاليا».
هذه الرسالة المختصرة حملت على أوجهها المتعددة أصواتاً متعددة التوجهات، فالثقافة التي جملت أخلاق الجهمي لم تمنعها من الإعجاب بموسوليني، كقائد يسعى لتوحيد بلاده، وهي نفسها الثقافة التي حملت شعوراً مكثفاً بالوعي بأنَ بلادها في حالة احتلال تُوجبها أن تستخدم عقلها لترسل نيتها بصريح العبارة «لكن احتلالك لبلادي غير صحيح»، وهي نفسها الثقافة التي صنعتْ منها شخصية دبلوماسية استطاعت من خلال جملتها أن توصل رسالة سياسية مختصرة وجزلة الألفاظ، لا تجريح فيها ولا امتهان للطرف الآخر، وهي ذاتها الثقافة التي أنذرت الآخر بأن حالة الاستعمار لا تعدو أكثر من كونها مأزقاً يجرُ الجحيم على فاعله.
النساء في تلك الفترة قضى كثير منهن نحبه بين جوع ومرض وشنق وجرائم حرب ارتُكبت في حقهن، حتى بداية الدولة المستقلة التي وجدتْ فيها خديجة نفسها واحدة من بين كثيرات يحاولن التماس طريقهن نحو العلم والمعرفة للخروج من نفق الجهل والفقر والمرض المُدقع، ولإيجاد طريق تليق بمسيرتهن.
خديجة صاحبة ذلك العود الغليظ، الذي جعلها تبدو امرأة خالية من مظاهر الأنوثة، لم يتجرّد قلبها المرهف من أحاسيس الأنثى المثقفة الواعية، الأنثى التي ملكتْ أن تكون شاعرة، وأن تكون رائدة عصرها كإذاعية شهيرة بعد الرائدة حميدة العنيزي، وأن تكون أديبة تكتب الخواطر، وتعبّر عمّا في خلجات وجدانها وضميرها الإنساني المُعذّب من رحلة بلدها المتعبة المرهقة.
بلغ تأثيرها مداه من خلال برامجها الاجتماعية «أضواء على المجتمع» و«فكر معي» و«من حياة الناس» و«صور من الماضي»، حتى أنّها ألهمتْ الكثيرات اللاتي حاولن الالتحاق بركبها، فتقدّمن للعمل معها، أمثال نادرة العويتي، ولطيفة القبائلي، وزهرة الفيتوري التي تميزت في الإخراج، ووصل تأثيرها لأن تتلمذ على يدها بعض الأدباء الشباب الذين برزوا في زمانها، أمثال الأديب إدريس الطيب.
وكان قلبها يقودها نحو يقين لا يتوقف بوطن يليق بها، وبتنوير نفسها ومَن حولها، فكانت رئيسة اتحاد المرأة عام 1973، الذي طالبت فيه بحقوق النساء أمثالها، وتكلمت بصوتهن، وكتبت عنهن رسائل معذبة، وخواطر ترجمتْ بقلمها تحت اسم «بنت الوطن» إرهاصات الواقع الاجتماعي، وتأثيرها على المرأة التي ظلت تناضل وتكابد حتى تنال استحقاقها ودورها الفاعل في المجتمع.
خديجة التي ذاقت وعثاء السفر إلى مصر في 1952، ودرست فيها، وحاولت الحصول على عملٍ يثبت ذاتها، ويساعدها على مقاومة شظف عيشها، فتحصلت بعد محاولات كثيرة على فرصة عمل كخياطة في بيت الممثلة ليلى رستم، خريجة الجامعة الأميركية، كما تروي هذه التفاصيل خديجة بلسانها في لقاء أجرته معها الباحثة أسماء الأسطى.
البحث عن ذاتها وهويتها شكل انعكاساً كبيراً لمعاناة المرأة، وسط الفوضى والتنقل في الحرب، فتذكر في لقائها ذاك أنّها أُرهقت واضطرت للانتقال مع جدها البعباع لمنطقة القوارشة الواقعة في ضواحي بنغازي، وهنالك تتطوع بأحد المستشفيات في التمريض، لأنها تُجيد الحقن ومداواة الجروح، لكنَ ذلك التطوع من أجل العمل الإنساني أشعرها بأهمية أن تحقق استقلالها الذاتي، فكيف تفعل وهي المرأة التي تحاول أن تستنهض همم النساء في مجتمعها، وتحاول ألا تخبو وينطفئ ضوؤها الذي كان يلهم الكثيرات كي يمضين به متعهدات لأنفسهن وأهاليهن بالحصول على حياة تليق بمجتمع يجاهد من أجل أن يستحق الحياة.
فلا تكاد تفكر إلا وتتوصل لفكرة عبقرية، وسط كل هذا المحيط البدائي الخالي من المواد الخام، ومن الأدوات التي تجعل المرء صانعاً لقدره بنفسه، تذكر خديجة في لقائها مع الباحثة أسماء الأسطى، وبسرد شائق قولها: «كان جدي يناديني مداعباً: (جيجا)، وهو اسم عجوز أرمينية كانت تحقن بالإبر، وهي معروفة في أوساطنا الأسرية، كان هذا العمل تطوعياً بلا مقابل، فكيف نعيش أنا وأمي وأختي جازية وربيعة؟ لم يكن من المنطقي أن نكون في عنق جدي الذي يعول أربع أسر غيرنا، عندها أخرجت ماكينة الخياطة وبدأت العمل، لم يكن هناك قماش، لكن المظلات التي تسقطها الطائرات في الحرب الدائرة - وهي من نسيج الحرير الطبيعي وتخاط بشكل دائري - أوحت لي بالحل، فلم يكن من الصعب فتق الخياطة الأصلية، وإعدادها قطعاً من القماش، كما كنت أصبغها بالألوان، وأفصلها إلى سواري رجالية وقفاطين، بذلك صار لدي كثير من المال الذي لا يحقق أي شيء. ففي السابق، الألف فرنك يمكن المرء من شراء منزل، إلا أنه في زمن الحرب لا يأتي برغيف خبز. كل ذلك يقع في بال امرأة مسكونة بروح الحياة، امرأة ذات قلب حي، ويقين راسخ بأن استتباب المجتمع يقع على عاتق الطرفين، وبأن دورها الريادي لا يقل عن دور الرجل، خديجة التي قالت كل شيء في رسائل ريادية تقلدتها بمناصب كثيرة ترأستها، ابتداء من الصحافة إلى رئيسة مجلة «البيت» ومؤسستها، إلى مجلة «الأمل»، إلى عضوية وإدارة كثير من الملفات الثقافية في صحف محلية كثيرة.
تذكر حنينها إلى الماضي، وشوقها لبنغازي ورائحتها، بشيء من الأمل، فبنغازي في نظرها هي ذلك الشارع الصغير في الكيش القريب من زنقة البعباع، وبنغازي مهما كبرت في نظرها هي فسحة ذلك البيت المسقوف الذي يحتوي على صندوق السحارية وصورها القديمة، وغرفتها المرصوصة بالوجوه والذكريات والشخوص الذين تأثرت بهم وأثرت فيهم.
تترجم تلك المشاعر المحتبسة في كينونتها في نصوص غنائية عميقة، أطربت بها مسامع من تهفو قلوبهم إلى المحبة والسلام.
هذه هي خديجة الجهمي الإنسانة التي مر شخصها على الحرب، فكانت المناضلة بين الحربين العالميتين، وكانت الطيف الذي يتحرك هنا وهناك، مقاوماً كل القيود التي كبلتها، وحدت من حريتها، وكانت النور الذي أضاء العتمة المتسربلة حول مجتمعها، فاستطاعت أن تزيح ظلامها، وترفع من سطوة ثقلها، رغم شدة معاناتها وصبرها، لم يكن من نصيبها أن تكون أماً من زوج سوري الجنسية، فخسرت توأمها، لكنها كانت أماً عظيمة لمجتمع يرنو إلى حياة كريمة، ويحاول التماس الطريق.
لو مررنا بشريط حياتها الذي انطفأ بثُّه في عام 1996، لاستحقت وصفها بأنها امرأة عملت في شتى المجالات، لتوصل صوتها وتقول للحياة كل شيء، كل شيء عن النساء اللاتي تحركن كأطياف باهتة في بلد كابد حتى وُلد من تحت رماد الحروب.