صحافيو تركيا ملاحقون في الداخل ومطاردون في الخارج

على مدى 5 أعوام، عاش الصحافيون في تركيا حقبة، ربما هي الأصعب على الإطلاق لمن يمارسون مهنة المتاعب لافتقادها المعايير التي تضمن لهم مناخاً يعملون فيه بلا قيود أو مضايقات. تلك الحقبة أفقدتهم في كثير من الحالات الشعور بالطمأنينة وعدم مواجهة السجن للكثير من الأسباب التي تتعلق بأداء مهنتهم، لكنها في التكييف القانوني تتحول إلى اتهامات تنقلهم إلى خانة المتهمين بدعم الإرهاب.
كثير من القصص والحكايات لصحافيين ابتلعتهم الزنازين أو باتوا ملاحقين في قضايا فرضتها أحداث كبيرة مرت بها بلادهم أو أصبحوا، فيما هو أبعد من ذلك، مطاردين في الخارج أو مدرجين على قوائم المطلوبين في جرائم خطيرة... بينما ترى السلطات أنها تقوم بما يجب من أجل حماية البلاد من الأخطار... فيما تنظر إليها منظمات الصحافيين الدولية على أنها «محنة لحرية الصحافة».
أوضاع جعلت منظمة «مراسلون بلا حدود» تستخدم عبارة «أكبر سجن للصحافيين» لوصف وضع الصحافة في تركيا في العام 2018. كما باتت تركيا في المرتبة 155 من أصل 180 في ترتيب حرية الصحافة، بحسب المنظمة، فضلا عن احتلالها المرتبة الأولى على مستوى العالم في عدد الصحافيين السجناء، بحسب تقرير للجنة حماية الصحافيين الدولية، صدر في نهاية العام الماضي... في هذا التقرير بعض حكايات الصحافيين الأتراك خلف القضبان، أو المهددين بالسجن، أو الملاحقين والمطاردين في الداخل والخارج.

الأخوان ألطان
في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 15 يوليو (تموز) 2016 أصبح المناخ في تركيا، بسبب المخاوف الأمنية وحالة الطوارئ وإغلاق الكثير من الصحف والقنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية لا يسمح للصحافيين بالاستمرار في ممارسة عملهم بحرية وأصبحت السجون تحوي أسماء كبيرة لصحافيين وكُتّاب بارزين على ساحة العمل الإعلامي في تركيا من بينهم الكاتب أحمد ألطان وشقيقه محمد الذي كان صحافيا ومقدم برامج أيضا.
في ديسمبر 2017 طالب الادعاء العام في تركيا بعقوبة السجن المشدد مدى الحياة «مرات عدة» للشقيقين في القضية التي عرفت باسم «الذراع الإعلامية لمنظمة فتح الله غولن» (حركة الخدمة التي تتبع الداعية فتح الله غولن وتتهمها السلطات بتدبير محاولة الانقلاب).
وفى لائحة الاتهام التي أعدها مكتب التحقيق في جرائم الإرهاب والجريمة المنظمة في إسطنبول، طالبت النيابة العامة بثلاث عقوبات بالسجن المشدد مدى الحياة والسجن لمدة تصل إلى 15 عاما للأخوين ألطان بتهم «محاولة منع البرلمان التركي من القيام بواجباته أو إلغائه تماماً» و«محاولة إزالة حكومة الجمهورية التركية أو منعها من القيام بواجباتها».
واستندت سلطات التحقيق إلى مقالات قديمة كتبها أحمد ألطان، واعتبرتها دليل إدانة، وقالت إنه كتبها من أجل «تهيئة الشعب لمحاولة الانقلاب من خلال تصوير رئيس الجمهورية على أنه (ديكتاتور) وسوف يسقط من الحكم خلال فترة قصيرة».
نازلي إيليجاك

عاصرت الكاتبة الصحافية نازلي إيليجاك الكثير من الحقب السياسية وأنظمة الحكم في تركيا وانخرطت أيضا في غمار السياسة كنائبة بالبرلمان وعملت في الكثير من الصحف والقنوات التلفزيونية القريبة من حكومات حزب العدالة والتنمية الحاكم في فترة شهدت تقاربا شديدا بين الحزب وحركة الخدمة التابعة لغولن وكانت صحف الحركة وقنواتها التلفزيونية داعما للحكومة، بل وأحيانا من وجهة نظر البعض ناطقة متحدثة بلسانها.
حوكمت إيليجاك في إطار القضية نفسها التي حوكم فيها الأخوان ألطان، ونالت العقوبة نفسها (السجن مدى الحياة 3 مرات) لكن أضيفت إليها عقوبات في تهم أخرى منها «نشر أسرار تخص الدولة» و«إهانة رئيس الجمهورية».
وأشارت لائحة الاتهام إلى أن إيليجاك التي كانت من كتّاب صحيفة «زمان» كبرى صحف حركة الخدمة، وصحف أخرى موالية للحكومة في تركيا أيدت إعلان الأحكام العرفية عام 1978 في 13 ولاية تركية حيث كتبت مقالا بعنوان: «العطشى للسلام يقولون للجنود مرحباً».
اعتقلت قوات الأمن التركية، إيليجاك، في ولاية موغلا (جنوب غرب)، بعد صدور أمر بالقبض عليها في 25 يوليو 2016، في إطار التحقيقات المتعلقة بالأذرع الإعلامية لحركة غولن، وأمرت المحكمة بحبسها في الثلاثين من الشهر نفسه.
والثلاثاء الماضي، عاقبت محكمة تركية إيليجاك بالحبس 5 سنوات و10 أشهر، في قضية منفصلة اتهمت فيها بنشر معلومات «كان من الضروري أن تظل سراً من أجل أمن الدولة»؛ فيما عاقبتها بالحبس 14 شهراً في العام الماضي بتهمة إهانة رئيس الجمهورية، وهي جريمة تصل عقوبتها في تركيا إلى الحبس 4 سنوات.

جان دوندار
أصبح جان دوندار رئيس التحرير السابق لصحيفة «جمهوريت»، كبرى الصحف «العلمانية» في تركيا، هدفا للملاحقة في الداخل ثم استمرت ملاحقته بعد أن سافر إلى ألمانيا التي اختارها كمنفى له وطلب حق اللجوء إليها بعد أن لاحقته اتهامات بـ«تسريب معلومات سرية تمس أمن الدولة» و«التحريض على الإطاحة بالحكومة».
وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أصدرت السلطات التركية أمر اعتقال بحق دوندار، في إطار تحقيق حول احتجاجات «جيزي بارك» التي خرجت في إسطنبول عام 2013 لأسباب تتعلق بحماية حديقة تاريخية في ميدان تقسيم في إسطنبول، ثم سرعان ما تحولت إلى احتجاج واسع ضد حكم الرئيس رجب طيب إردوغان، الذي كان رئيسا للوزراء في ذلك الوقت.
ويقول إردوغان إن الاحتجاجات نظمت ومولت من جانب رجل الأعمال الناشط الحقوقي، عثمان كافالا، الذي اعتقل منذ أكثر من عام، فيما لم توجه السلطات له تهما بشأن الاحتجاجات، التي ينفي الزعم الموجه ضده بشأنها، وذلك بالتعاون مع رئيس منظمة «المجتمع المفتوح» الأميركية جورج سوروس. وذكر ممثلو الادعاء في أمر اعتقال مكتوب موجه إلى المحكمة أن دوندار كان على صلة بكافالا خلال الاحتجاجات.
ومن قبل، صدر على دوندار حكم بالسجن 5 سنوات عام 2016 لنشره تسجيلا مصورا تظهر فيه عناصر تابعة للمخابرات التركية تنقل أسلحة إلى سوريا، قيل إنها كانت متجهة إلى تنظيمات إرهابية، «داعش» على الأرجح، وأطلق سراحه رهن المحاكمة لكنه سافر إلى ألمانيا.
وشملت هذه القضية 19 من الصحافيين والعاملين بصحيفة «جمهوريت» في مقدمتهم دوندار باعتباره المتهم الرئيسي. ووجهت النيابة العامة إليهم تهم «الانتماء إلى منظمة إرهابية مسلحة» و«مساعدة منظمة إرهابية مسلحة دون العضوية فيها» وطالبت بالسجن لمدة تتراوح بين 5 و15 سنة للمتهمين.
ويواجه الرئيس التنفيذي للصحيفة أكن أتالاي ومساعداه أورهان إيرينتش وأوندر تشيلك عقوبات بالسجن لمدد تتراوح ما بين 11 و43 عاما. كما يواجه عدد آخر من الصحافيين ورسامي الكاريكاتير والإداريين عقوبات بالسجن تتراوح ما بين 9 سنوات ونصف السنة و29 عاما بالاتهامات نفسها.

أنيس بربر أوغلو
طالت هذه القضية أيضا نائب حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، عن مدينة إسطنبول الصحافي أنيس بربر أوغلو، الذي حُكم عليه في البداية بالسجن لمدة 25 عاماً في عام 2017 بتهمة التجسس بسبب اتهامه بتزويد صحيفة «جمهوريت» بشريط الفيديو الذي يظهر نقل الأسلحة بواسطة المخابرات التركية إلى سوريا مطلع العام 2014، وجرى تخفيف الحكم في 13 فبراير (شباط) 2018 إلى الحبس لمدة 5 سنوات و10 أشهر، ووافقت محكمة النقض على الإدانة وعلى الحبس، لكنها قضت بإطلاق سراح بربر أوغلو حتى نهاية فترة عضويته بالبرلمان (5 سنوات) وأُطلق سراحه.
وجاء قرار المحكمة بعد أن قال محامو بربر أوغلو إن النائب تم منحه حصانة من الملاحقة القضائية في الانتخابات الأخيرة التي أجريت في 24 يونيو (حزيران) الماضي وأن هذا الأمر يوقف استمرار الإجراءات ضده، ورفضت الدائرة المدنية السادسة عشرة في محكمة النقض استئناف بربر أوغلو في 10 سبتمبر (أيلول) الماضي، قائلة إن «الانتخاب كنائب للمرة الثانية لا يمنح حصانة من المقاضاة»، وطعن المحامون أمام دائرة أخرى قضت بالإفراج عنه.
قضية بربر أوغلو أحدثت هزة كبيرة في الأوساط السياسية والإعلامية في تركيا بعد أن حصل على عقوبة السجن المؤبد، وبسبب هذا الحكم نظم رئيس حزب الشعب الجمهوري وأنصار الحزب مسيرة استغرقت ما يقرب من الشهر سيرا على الأقدام من أنقرة إلى السجن الذي أودع به في إسطنبول أطلق عليها «مسيرة العدالة» أريد بها أن تكون جرس إنذار حول تردي وضع دولة القانون والحريات في تركيا، واختتمت المسيرة بمظاهرة مليونية ضخمة في إسطنبول رفعت شعار الحقوق والعدالة أيضاً.
وظلت القضية تتفاعل عبر الوسائل القانونية حتى وصلت إلى تخفيف عقوبة السجن المؤبد والإفراج عن بربر أوغلو.

بلين أونكر
جسدت قضية الصحافية الشابة نموذجا آخر للقضايا التي يواجهها الصحافيون في تركيا والتي تعتبرها المنظمات الحقوقية والصحافية الدولية ممارسات سلبية ضد الصحافة والصحافيين. عاقبت محكمة في إسطنبول، في الأيام الأولى من العام الجاري، أونكر، بالحبس 13 شهرا بسبب مشاركتها في تحقيق صحافي، حول ما يطلق عليه «فضيحة الملاذات الضريبية الآمنة بالخارج» تضمن وثائق تكشف عن تفاصيل تتعلق بالأنشطة التجارية لرئيس البرلمان التركي رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم، المرشح في الانتخابات المحلية التي ستجرى في نهاية مارس (آذار) المقبل لرئاسة بلدية إسطنبول، وأبنائه.
وأنزلت هذه العقوبة بحق الصحافية أونكر، عضو الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، لاتهامها بـ«التشهير والإهانة»، بعد نشرها تحقيقات صحافية حول شركات في مالطا، يملكها يلدريم وأبناؤه. وأبلغت أونكر الاتحاد الدولي للصحافيين باعتزامها طلب الاستئناف على الحكم، مؤكدة أن عائلة يلدريم اعترفت بأن مقالاتها حول الأنشطة التجارية في مالطا توخت الدقة، وأن قرار المحكمة لم يكن مفاجئاً لها؛ لأن النتيجة كانت متوقعة من البداية.
وأضافت: «لم أقترف جريمة أو قمت بالتشهير في مقالاتي، والحقيقة هي أن أبناء بن يلدريم يمتلكون شركات في مالطا، ولقد أقر يلدريم ذاته بأنهم يمتلكون هذه الشركات، وورد أيضاً في لائحة الاتهام أنهم أقروا بذلك».
وعرفت التحقيقات الصحافية التي نشرتها أونكر، إعلاميا، باسم «فضيحة بارادايس»، وجاءت ضمن عملية تسريب واسعة النطاق لوثائق ومستندات تتعلق بممارسات مال وأعمال في الملاذات الآمنة ضريبيا بالخارج، نشرتها مجموعة تضم 90 منفذا إعلاميا في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك صحيفة «الجارديان» البريطانية.