تنافس هندي ـ صيني على النفوذ في ميانمار

أحدث قرار الصين إنشاء ميناء بحري في كياوكبيو، المدينة البورمية التي تقع على ساحل راخين في خليج البنغال، تقلّبات في الأوضاع الجيوسياسية سريعة التغير في هذه المنطقة. وبعد ميناء هامبانتوتا، الذي «استأجرته» الصين من سريلانكا لمدة 99 عاما مقابل قرض بقيمة 1.8 مليار دولار، يكون ميناء كياوكبيو ثاني ميناء تابع للصين في خليج البنغال، والثالث في المنطقة المتاخمة للهند إن أخذنا ميناء غوادار الباكستاني المطل على بحر العرب في الاعتبار. كما تقوم الصين بتمويل تطوير ميناء بحري عميق آخر في شيتاغونغ في بنغلاديش، بالقرب من الهند.
وفي محاولة لتعزيز مكانتها كقوة بحرية، وتأمين سلاسل التوريد الرئيسية وترسيخ إمكاناتها التجارية الدولية، وتنمية نفوذها الاقتصادي، عملت الصين في مجال تنمية وتطوير الموانئ على المستوى العالمي على امتداد الموانئ من جنوب آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، وحتى جنوب أميركا، في شبكة من الموانئ تمتد عبر العالم مع محطات في كل من اليونان، وإسرائيل، وجيبوتي، وإسبانيا، وإيطاليا، وبلجيكا، وكوت ديفوار، ودول أخرى.
وعلى مدى السنوات العشر الماضية، حازت الشركات الصينية على حصص معتبرة في 13 ميناء في أوروبا، بما في ذلك اليونان وإسبانيا وبلجيكا، وذلك وفقا لدراسة أعدتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأوروبية. وتسيطر هذه الموانئ في مجموعها على نسبة 10 في المائة من سعة حاويات الشحن في أوروبا وحدها.
يشكّل ميناء كياوكبيو جزءا أساسيا من مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي ترمي إلى توسيع روابط بكين التجارية في مختلف أرجاء العالم. وكانت حكومة الصين على تواصل مع حكومة ميانمار بشأن ميناء كياوكبيو منذ عام 2008. وفي ظل الحكم العسكري للبلاد، تمكنت بكين من زيادة حصتها في مشروع الميناء إلى نسبة 85 في المائة. ولكن إثر احتجاجات شعبية ومشاعر معادية للصين في البلاد، لم يتسن للمشروع الانطلاق ودخول حيز التنفيذ.
وفي أعقاب انتخابات عام 2015 في ميانمار، التي أسفرت عن وصول حزب الرابطة الوطنية الديمقراطية بقيادة أونغ سان سو تشي إلى السلطة، بدأت الأمور في التغير. وفي أكتوبر (تشرين الأول) لعام 2017. وافقت «مؤسسة صندوق الاستثمار الدولي الصيني» على تقليل حصتها في مشروع الميناء إلى 70 في المائة، كما خفّضت إجمالي تكلفة مشروع تطوير الميناء من 7.3 مليار دولار إلى 1.3 مليار دولار فقط.
ولميناء كياوكبيو أهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة بالنسبة إلى الصين، حيث يسمح لها بالوصول إلى خليج البنغال وتنويع مسارات الطاقة، وخفض الطريق البحري لمسافة 5 آلاف كيلومترا تقريبا، مما يوفر للصين طريقا مباشرا إلى البحر لتأمين شحنات الطاقة القادمة من منطقة الشرق الأوسط والتي تتخطّى مضيق ملقا الذي تسيطر الولايات المتحدة الأميركية عليه تماما، والذي يمكن أيضا أن يتحول إلى رأس حربة في خاصرة الصين في أوقات الأزمات، إذ تستطيع واشنطن قطع أغلب طرق التجارة البحرية التي تربط بكين بالغرب. وسوف تكون الصين قادرة على تخزين واردات الطاقة القادمة من الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا وبلدان أخرى في ميناء كياوكبيو ثم نقلها إلى الصين عبر خط الأنابيب الموجود بالفعل، وشبكة الطرق، والربط المقترح بالسكك الحديدية.
من المثير للاهتمام في هذا الصدد، أن الهند والصين تتبعان سياسة متشابهة فيما يتعلق بميانمار. كما أن للقوتين الآسيويتين استثمارات واسعة في ولاية راخين، ما يدفعهما لدعم حكومة البلاد بشكل قوي ومستمر، على النقيض مع المجتمع الدولي الذي تطالب حكومة سو تشي بإجابات لـحملة «التطهير العرقي» الذي قادها الجيش ضد أقلية الروهينغا المسلمة. ولقد صوتت كل من الهند والصين ضد أي قرارات تتعلق بحالة حقوق الإنسان في ميانمار في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
يقول بينودا كومار ميشرا، رئيس مركز العلاقات الدولية والتنمية في الهند، إن «لدى الهند والصين مشروعات ضخمة للبنية التحتية في ولاية راخين، منها مشروع كالادان متعدد الوسائط الممول من قبل الهند والمصمم لتوفير الرابطة البحرية النهرية البرية إلى منطقة الشمال الشرقي البعيدة من خلال ميناء سيتوي، فضلا عن ميناء كياوكبيو الممول من جانب الصين». وأضاف أن الصين تدعم ميانمار في الحفاظ على نفوذها القوي الذي استغرق ثلاثة عقود من المساعدات التنموية الضخمة، إلى جانب توريد المعدات العسكرية، كما تدعم الهند ميانمار لمساعدتها في مواكبة التقدم الصيني وبناء النفوذ المطلوب على نحو جزئي من خلال تمويل مشروعات التنمية، وجزئيا أيضا من خلال العزف على أوتار الروابط الحضارية القائمة على التراث البوذي المشترك بينهما. وتعمل كل من الهند والصين على إشراك الجيش البورمي والحكومة المدنية في الأمر، لأن ميانمار تعتبر المفتاح الذهبي لسياسة «التوجه شرقا» الهندية، ومبادرة الحزام والطريق الصينية»، على حد قوله.
وفي ميانمار، تعمل الحكومة على موازنة دقيقة لعلاقاتها الثنائية مع الهند. وقلّلت الحكومة هناك من المخاوف الأمنية لدى نيودلهي والدول الغربية وأعلنت أنه لن يكون هناك أي وجود عسكري صيني في ميناء كياوكبيو، رغم أن اتفاق الإيجار يمتد قرابة 5 عقود كاملة وقابل للتمديد لمدة 25 عاما أخرى، إلا أن حظر الوجود العسكري الصيني لا يزال قائما.
من جانبه، توقّع بي. دي. ديباك، أستاذ الدراسات الصينية في جامعة جواهر نهرو في نيودلهي، أن «تطلب بكين من حكومة ميانمار الاضطلاع بتوفير الأمن، تماما كما فعلت فيما يتعلق بالممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني. وتعتمد الدولة بشكل متزايد على الدعم الدبلوماسي من بكين في مواجهة الانتقادات الغربية المتصاعدة بشأن معاملة أقلية الروهينغا المسلمة في ولاية راخين، وتحتاج إلى مساعدة بكين لإنهاء النزاعات الحدودية. غير أن الكثيرين في ميانمار يشعرون بالقلق المتنامي من تفاقم الاعتماد الحكومي على الصين».
من جهة أخرى، تطوّرت العلاقات السياسية والاقتصادية والدفاعية بين الهند وميانمار بوتيرة متسارعة خلال السنوات الأخيرة. وتغطي سياسات «التوجه شرقا» و«الجيران أولا» الهندية دولة ميانمار، وهي الدولة الوحيدة في رابطة دول الآسيان التي تشترك بحدود برية وبحرية مع الهند.
وعلى الصعيد الاستراتيجي، تحتل ميانمار موقعا مهما للغاية بين شرق آسيا وجنوب شرقي آسيا، وبالتالي فهي ذات أهمية سياسية لاستراتيجية «التوجه شرقا» الهندية. واعتمدت نيودلهي نسخة مكررة من نفس السياسة لعام 1991 بغية تعزيز العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية مع جنوب شرقي آسيا في محاولة لترسيخ دورها كقوة إقليمية فاعلة، والقيام بدور الثقل الموازن للنفوذ الصيني المتصاعد في نفس المنطقة.
وأعاد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي صياغة تلك الاستراتيجية في وقت لاحق بهدف التركيز على تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية مع الدول المحيطة بالصين من خلال تطوير العلاقات التجارية معها.
وقامت الهند في الآونة الأخيرة بتسليم ميناء سيتوي لحكومة ميانمار. بالإضافة إلى ذلك، تعمل الهند على تحديث المصافي النفطية، ومشروع إعادة تجميع الشاحنات الذي تتكون قوته العاملة بالكامل من النساء. كما تساعد الهند ميانمار على إنشاء وصلات تعمل بالموجات متناهية الصغر لأجل الاتصالات. ويعد ميناء سيتوي من موانئ المياه العميقة التي شيّدتها الهند في عام 2016 في مدينة سيتوي عاصمة ولاية راخين. وبلغت تكلفة الميناء 120 مليون دولار ممولة بالكامل من الحكومة الهندية في جزء من مشروع كالادان للنقل متعدد الوسائط، وهو ثمرة التعاون الثنائي المشترك بين حكومتي البلدين, ويعتبر محاولة إلى مواجهة النفوذ الصيني المتنامي في ميانمار.