أرشافين... موهبة سمحت لنفسها بسقوط مدوٍ

ثمة هالة سحرية بدت عالقة في الأجواء في صباح أول يوم لأندري أرشافين في لندن، إلا أنه رافقتها هالة من الشكوك، كذلك. كانت الثلوج تغطي ضاحية إزلنغتون وسيطرت حالة من الهدوء والصمت على شوارعها، وكانت الضجة الوحيدة المثارة حول «آرسنال» ليست من النمط الذي رغبت جماهير النادي في سماعه. كانت المفاوضات حول ضم المهاجم الروسي تسير ببطء منذ أسابيع، لكن الآن في اليوم النهائي، أشارت الأنباء المتواترة إلى أنها فشلت نهائياً. وبدا أن أرشافين في طريقه جواً للعودة إلى سانت بطرسبرغ. وبالتالي، بدت الخيارات الهجومية المتاحة أمام «آرسنال» محدودة للغاية في وقت كان يحتل مركزاً متقهقراً عن «أستون فيلا» الذي كان في المركز الرابع بفارق خمس نقاط.
إلا أنه اتضح خطأ هذه الأنباء، وفي اللحظة التي تفجرت خلالها كان أرشافين في واقع الأمر يخبر مسؤول المطعم داخل مقر النادي في «هايبري هاوس» طريقة إعداد البيض التي تروق له أثناء تناول الإفطار. في النهاية، تمكن الطرفان من تسوية جميع التفاصيل العالقة في صفقة انتقال اللاعب إلى النادي الإنجليزي مقابل 15 مليون جنيه إسترليني. والمقصود من وراء سرد هذه القصة توضيح أنه فيما يتعلق بأرشافين على وجه التحديد، نادراً ما يكون من السهل الوصول إلى الحقيقة. وعلى ذات المنوال، يمكنك النظر إلى أرشافين باعتباره نجما موهوبا حقق قصة صعود ونجاح أقرب إلى الأساطير، أو كصاحب موهبة مهدرة سمح لنفسه بسقوط مدو في لحظة كان على وشك أن يصل إلى العظمة والمجد. في الواقع، هذان مجرد سبيلين يمكن من خلالهما تفسير مسيرة أرشافين الكروية التي تبدو الآن قد بلغت محطة النهاية، أخيراً.
في 11 نوفمبر (تشرين الثاني)، بعد عقد من الانتقال إلى إزلنغتون، خاض أرشافين آخر مباراة تنافسية في مسيرته وهو في الـ37. كان اللاعب قد بدأ مشواره الكروي في مباراة ببطولة كأس إنترتوتو (بطولة أوروبية ثانوية) على أرض «استاد فالي باريد» الخاص بـ«برادفورد سيتي»، وكان يشارك في صفوف «زينيت سانت بطرسبرغ». أما نقطة نهاية المسيرة فجاءت بمشاركته لمدة 40 دقيقة في مواجهة بين فريقي «كايرات ألماتي» و«شاختار قراغندي» الكازاخستانيين والتي انتهت بالتعادل دون أهداف.
وبعد المباراة، وجه أرشافين، الذي تنقل عبر محطات عدة في مسيرته لينتهي به الحال في غياهب الدوري الكازاخستاني الممتاز، كلمة قال فيها: «أود أن أشكركم على دعمكم لي خلال تلك السنوات الثلاث. وأتمنى أن أكون قد تركت بعضاً مني هنا». بالتأكيد فعل أرشافين ذلك في كل مكان ذهب إليه، وإن كان لا أحد يدري حجم ما تركه على وجه التحديد. بالنسبة للفترة التي قضاها في صفوف «آرسنال»، نبع جزء من الإثارة التي أحاطت مسألة انتقاله إلى النادي من صعوده المفاجئ إلى عالم الشهرة قادماً من بلاد بعيدة وعالم مجهول. كان أرشافين مشاركاً بعالم كرة القدم لبعض الوقت قبل أن يضطلع بدور القوة الملهمة وراء فوز «زينيت سانت بطرسبرغ» بكأس يويفا عام 2008، وانطلاق المنتخب الروسي بقوة حتى دور قبل النهائي ببطولة أمم أوروبا ذلك العام.
ومع ذلك، مر الجزء الأكبر من مشوار أرشافين الكروي بعيداً عن الأضواء العالمية داخل الدوري الروسي الممتاز، وساد اعتقاد وقت انتقاله إلى «آرسنال» بأن اللاعب أتى إلى إنجلترا تحيطه هالة من الغموض الساحر، وإن كان اليوم يعتبر أرشافين من النجوم المعاصرين المعروفين. وجاء أول هدف أحرزه أرشافين في مرمى «بلاكبيرن» سريعاً، أعقبته سلسلة من الأهداف تبدو اليوم أشبه بحلم بعيد، أحرزها على أرض ليفربول. في أحد أبرز هذه الأهداف، سجل أرشافين الهدف الرائع الرابع له ولـ«آرسنال» في تلك الليلة. ومن جديد، رفع أرشافين إصبعه أمام فمه في طريقته المميزة للاحتفال بإحراز الهدف، وكشفت طريقة احتفاله عن ذهوله هو شخصياً من حجم النجاح الذي وصل إليه.
في تلك الفترة، ساد انطباع حول أرشافين بأنه لاعب لا تعرف إمكاناته حدوداً. إلا أنه فيما عدا هدف فوز سجله في مرمى «برشلونة» بعد عامين، اتضح في النهاية أن ذلك النجاح لم يكن سوى فجر كاذب على الصعيدين الشخصي والجمعي. والسؤال هنا: لماذا حدث ذلك؟ سواء عن وعي أو دون وعي، توقف أرشافين عن التعلم. جدير بالذكر هنا أنه بعد عام من انتقاله إلى «آرسنال»، أجاب أرشافين عن سؤال له حول مدى التطور الذي طرأ على أدائه داخل النادي بقوله: «في الواقع، أعتقد أنني لا أزال بالمستوى ذاته. بطبيعة الحال، يتحسن أداء اللاعبين الصاعدين دوماً لدى انتقالهم إلى إنجلترا، لكنني أتيت إلى هنا في الـ27 وكنت أمتلك بالفعل خبرة كبيرة من المراحل السابقة في مسيرتي».
وبدا ذلك تقييماً ساذجاً بالنظر إلى البيئة المحيطة به، وربما يفسر السبب وراء إهدار فرصة تطوير الأداء تحت قيادة المدرب آرسين فينغر. لقد بدا أرشافين، حتى خلال المباراة التي انتهت بالتعادل 4 - 4 في ملعب ليفربول، لاعباً تتفجر مهاراته في مرات - الأمر الذي بدا بعيداً تماماً عما تتطلبه المشاركة الناجحة في منافسات الدوري الإنجليزي الممتاز - ومن أجل أن يعزز أداءه لما هو أكبر من مجرد فقاعة نجاح، كان يتعين على أرشافين تعلم متابعة الكرات وتجنب السقوط في مصيدة التسلل والجري لمسافات طويلة داخل الملعب. إلا أن هذا لم يحدث قط، رغم موسمه المثمر الأول عام 2009 - 2010.
بمرور الوقت وعلى نحو متزايد، بدا أرشافين داخل وخارج الملعب منفصلاً عمن حوله، وكثيراً ما جاءت إشادات أقرانه مصحوبة بتحفظات وملحوظات حول عناصر من اللعبة بمقدوره بذل مجهود أكبر بشأنها. وأحياناً عندما كان يطلب منه التعليق على أداء لاعبي الفريق، كان يجيب: «اسألهم». وبعد عودته من فترة إعارة في صفوف «زينيت سانت بطرسبرغ» أواخر موسم 2011 - 2012، شارك في 11 مباراة أخرى في صفوف «آرسنال» جاء أداؤه في معظمها واهناً.
بعد ذلك انتهى كل شيء، بقضائه آخر موسمين في صفوف «زينيت سانت بطرسبرغ» وفترة مداعبة قصيرة في صفوف «كوبان كراسنودار» الروسي، اتخذ أرشافين خطوة غريبة بانتقاله إلى «كايرات ألماتي». وتتمثل وجهة النظر السائدة داخل روسيا حول اللاعب بأنه يجسد أفضل العناصر المميزة لجيل ذهبي، وكذلك أسوأ ما به. ومثلما الحال مع لاعبين آخرين فازوا بفرصة الاحتراف بالخارج، تعرض أرشافين لاتهامات بأنه قنع بما حققه من إنجازات ولم يعد لديه طموح.
وتراجعت مكانة أرشافين داخل روسيا بشدة بعد خروج روسيا من دور المجموعات ببطولة «يورو 2012»، عندما تحدث إلى الجماهير بغضب بعدما طالبته بالاعتذار. ومع هذا، تظل الحقيقة أن المنتخب لطالما احتل مكانة كبيرة على نحو يفتقر إلى التناسب في أولويات اهتمام أرشافين، لدرجة أنه في أعقاب هزيمة روسيا أمام سلوفينيا في التصفيات المؤهلة لبطولة كأس العالم عام 2010. ساور فينغر القلق الشديد إزاء حدة الشعور بخيبة الأمل الذي سيطر على أرشافين.
ويشير ذلك كله إلى شخصية معقدة تتحدى جميع الأطر ومحاولات التصنيف. خلال فترة نشأته القاسية في سانت بطرسبرغ، استمتع أرشافين بلعب الشطرنج، وهي رياضة اعتقد أرشافين أنها تعينه على التفكير المنطقي. وكثيراً ما كان يعبر بحرية عن آرائه الشخصية عبر جلسات سؤال وإجابة في موقع شخصي له على الإنترنت خلال الأيام الأولى له في لندن.
بالنسبة له، شكلت كرة القدم مجرد هواية من بين هوايات أخرى، ذلك أن أرشافين لم يخف قط اهتمامه الشديد بالموضة والفنون، مع استعداده الدائم للإدلاء بتعليقات حول شتى الموضوعات، من السياسة حتى تذاكر انتظار السيارات. واليوم، لدى النظر إلى الخلف نجد أن تمسكه بقدر أكثر قليلاً من البديهيات، ربما كان ليخدم أرشافين كثيراً. ولطالما رأى اللاعب أنه لا خيار مقبولا أمامه سوى السير في الطريق الذي يختاره هو، ورغم أن هذا الأسلوب المميز للناجحين، فإنه أيضاً يكشف بسهولة عن حجم الهوة بين الأسطورة والحقيقة القائمة على أرض الواقع. وربما يتجلى حجم ما تبقى لدى أرشافين من موهبته إذا ما اختار طريق التدريب كخطوة تالية. إلا أنه كعادته دائماً، ترك الأمر مفتوحاً أمام علامات الاستفهام. عندما سأله مذيع روسي هذا الشهر: «هل ستبقى داخل مجال كرة القدم؟»، اقتصرت إجابة أرشافين على: «ربما». وبعدها رحل أرشافين مجدداً، لكن بصورة حقيقية هذه المرة.