الفرنسيون يستعدون اليوم لـ«السبت الأسود»

يلزم قانون السير الفرنسي كل سائق أن يضع في سيارته «سترة صفراء» يتعين عليه ارتداؤها عند حصول أي حادثة ولدى خروجه من سيارته. لكن «السترات الصفراء» تحولت إلى شعار يعكس غضب السائقين والمواطنين بشكل عام من سياسات الحكومة الاقتصادية والاجتماعية ورفع الرسوم المفروضة على المحروقات، التي ستزيد أيضاً بداية العام المقبل، بحجة «المحافظة على البيئة».
ولذا، فمن المقدر أن تشهد فرنسا اليوم، من أقصاها إلى أقصاها، حركة احتجاجية غرضها شل المواصلات والوصول بمواكب جرارة إلى قصر الإليزيه لإسماع الرئيس الفرنسي شكاوى المواطنين.
ما يميز هذه الحركة عفويتها، فلا أحزاب دعت إليها يميناً أو يساراً، ولا نقابات كانت وراء انطلاقتها، بل مبادرات فردية توسلت شبكات التواصل الاجتماعي لانتشارها، وقد كبرت شيئاً فشيئاً ككرات الثلج إلى درجة أن الحكومة تتخوف من تبعاتها. وفي رأي المراقبين، فإن الحركة تجيء كـ«متنفس» عن الاحتقانات المتراكمة منذ وصول الرئيس ماكرون إلى قصر الإليزيه في ربيع العام 2017.
وتأتي هذه الحركة الاحتجاجية، فيما ماكرون والحكومة يسعيان إلى استعادة المبادرة سياسياً بعد الصيف الذي أصاب منهما مقتلاً وتلته في شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم استقالات متتابعة؛ نُظر إليها على أنها أكبر الأزمات التي عرفها عهد ماكرون. بداية، جاءت «فضيحة بنعالا» وهو اسم أحد موظفي القصر الرئاسي المولج بشكل غير رسمي مرافقة الرئيس وحمايته الذي صُوِّر وهو ينهال ضرباً على ثنائي من المتظاهرين يوم عيد العمال في الأول من مايو (أيار) من غير أن تكون له أي صفة رسمية. ثم جاءت سلسلة الاستقالات الوزارية، وأهمها استقالة أهم وزيرين في حكومة إدوار فيليب، وهما وزيرا البيئة والداخلية نيكولا هولو وجيرار كولومب، وتأخر ماكرون في تعيين بدائل عن المستقيلين، وتراجعت شعبيته إلى الحضيض (26 في المائة من الفرنسيين يؤيدون سياسته). وقد سعى ماكرون وفيليب ووزراء آخرون من خلال حوارات مطولة مع التلفزيونات، وآخرها للرئيس الفرنسي مع «القناة الأولى» مساء الأربعاء، لـ«شرح» السياسة الحكومية وتبديد الصورة التي علقت به «رئيساً للأغنياء» بسبب التدابير الاقتصادية التي ينظر إليها على أنها لمصلحة الأكثر ثراءً، وأهمها إلغاء الضريبة على الثروة، ووضع سقف للرسوم المستوفاة على عمليات البورصة. ثم هناك «أسلوب» ماكرون «العامودي» في الحكم وسيره بإصلاحات تُفرض فرضاً من فوق ولا تثمر نتائج على حياة المواطنين لتحفر هوة بينه وبين الفرنسيين؛ حاول في الأسابيع الأخيرة ردمها، ولكن دون طائل.
خلال نهاية الأسبوع الماضي، تحولت باريس بمناسبة احتفالات المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى عام 2018 إلى «عاصمة العالم» بفضل حضور 72 رئيس دولة وحكومة وعشرات المسؤولين عن كبريات المنظمات الدولية. وكان ماكرون «النجم الأكبر» لهذه الاحتفالية. ولذا، راهن على قدرته على الاستفادة منها ليعود إلى ما كان عليه سابقاً: رئيساً شاباً وطموحاً يحلق من أجل إصلاح النظام العالمي ونشر السلام... لكن الشؤون الفرنسية الداخلية أعادت إنزاله إلى الواقع اليومي الحزين المليء بالمطالب والاحتقانات.
لكل هذه الأسباب، انتشرت حركة «السترات الصفراء» كالنار في الهشيم، وهي تهدد اليوم بشل فرنسا بشكل واسع من خلال إغلاق الطرقات ومداخل المدن الكبرى والمواقع الاستراتيجية كالموانئ والمطارات ومحطات إنتاج الكهرباء ومستودعات المحروقات والمصافي، ما يجعل الناس تتخوف من «السبت الأسود». وحتى أمس، رصد ما لا يقل عن 700 تحرك منتظر طيلة هذا اليوم.
إزاء هذه التهديدات التي من شأنها أن تشل البلاد، سارع وزير الداخلية كريستوف كاستانير إلى التهديد بأن الحكومة «لن تسمح» بأن تُصاب البلاد بشلل تام، فيما لجأ رئيس الجمهورية والحكومة إلى لغة أكثر طراوة من خلال التأكيد على حق التظاهر الذي يكفله الدستور وحق المواطن في حرية الحركة.
وسارع رئيس الحكومة إلى الإعلان عن مجموعة من التدابير التي يراد لها أن «تواكب» رفق الرسوم على المحروقات، والتي يمكن لأصحاب الدخل المحدود الاستفادة منها. من جانبه دعا ماكرون الحكومة إلى «الاستماع» لما يقوله الشعب ويطالب به. لكن يبدو أن هذه الدعوة جاءت متأخرة ولم تكن ذات جدوى من أجل استباق الحركة الاحتجاجية التي أطلقها سائق شاحنة اسمه أريك درويه على شبكة «فيسبوك»، وجاء في دعوته ما يلي: «يتعين علينا أن ننزل إلى الشارع يوم 17 نوفمبر (تشرين الثاني) نحن المواطنين من أجل أن تكون لنا كلمتنا مستقبلاً فيما سيحصل في فرنسا، أكان ذلك بالنسبة للضرائب أو القوانين أو إدارة الحكومة» للشؤون العامة. وأطلقت مواطنة اسمها بريسيليا لودوسكي عريضة على الإنترنت جمعت في وقت صغير 850 ألف توقيع، وجاء فيها أن السلطات «لا تفكر بالناس الذين يعيشون خارج المدن وفي المناطق والأرياف وهي تدعوهم للعثور على طريقة للتنقل مختلفة، لكن الواقع أن لا خيار أمامهم سوى أن يدفعوا» أيضاً وأيضاً.
الشرارة كانت زيادة الرسوم على البنزين والغازويل التي تجني منها الدولة سنوياً أكثر من 33 مليار يورو تدعي أنها تصرفها بالتمام - وفق وزير المال - على «النقلة البيئوية». لكن هذا الادعاء لا يبدو أنه يتطابق مع الواقع، لا بل إن الذين سينزلون إلى الطرقات ويقفلونها اليوم يرون أنها «حجة» لفرض مزيد من الرسوم. أمس، أقفل سائقو سيارات الإسعاف جادة الشانزليزيه بسيارتهم احتجاجاً على خطة إصلاح لقطاعهم تنوي الدولة تطبيقها وهم يرفضونها لأنهم يرون أنها تضعهم تحت رحمة المستشفيات. ولساعات، تجمد السير في هذا الشريان الحيوي، وقد جاء كمؤشر لما ينتظر الفرنسيين اليوم في بداية عطلتهم الأسبوعية من صعوبات.