في زمن سبق عصر البوتوكس

في تسعينات القرن الماضي، خطوت أولى خطواتي في عالم الإعلام المسموع من خلال انتمائي إلى إذاعة «جبل لبنان» محررا للأخبار، ثم مراسلا ومذيعا للأخبار. كنت قبلها أعمل في وكالة «أخبار اليوم» للصحافي المرحوم رؤوف الراسي. كانت وظيفتي آنذاك تقتصر على تفريغ تصريحات المسؤولين كلمة كلمة. في الموازاة كانت لي تجربة الكتابة في مجال النقد التلفزيوني في هذه الصحيفة الموقرة «صحيفة الشرق الأوسط» التي عدت إليها ضيفا بعد سنوات طويلة.
في تلك الفترة كانت شروط الانخراط والنجاح في مجال الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية كثيرة وصعبة لكنها أصبحت طريقة عيش وعمل: فعملية تأمين المعلومة كانت مضنية نسبة إلى اليوم حيث أصبحنا في زمن آل «copy paste»، الحقيقة والمصداقية كانتا الأساس في صياغة أي خبر فأصبح الكذب والتلفيق أساساً. كان التقرير أو المقال الذي لا يحترم التوازن والموضوعية ممنوعا، اليوم من يدفع أكثر يُكتب عنه أكثر وينأى بنفسه عن الانتقاد. أصبح للخبر سعر وللمقالة سعر والصورة سعر.
كانت اللغة العربية مقدسة أصبحنا نؤمن بالجهل. كان الحرف محترما أصبح مبتذلا. كنا في عصر الحضور الجيد وبساطة المظهر، أصبحنا في عصر البوتوكس.
أذكر أنني تدربت أشهرا مضنية على الإلقاء الصحيح بمعيّة أساتذة وبمجهود شخصي، قبل أن أذيع خبرا على أثير الإذاعة ومن بعدها على شاشة التلفزيون.
كانت الطريق طويلة، اليوم يسلك الصحافيون طرقاً قصيرة ملتوية يعتمدون وسائل نقل شائبة. كان مقدمو ومقدمات البرامج إعلاميين محترفين مثقفين يحترمون الجمهور، المعرفة تغلف كل شيء، أما اليوم يتفرج الجمهور عينه على ممثلين ومهرجين وممثلات وعارضات أزياء «يتعمشقون» على المنابر التلفزيونية، وأصبح الكلام البذيء والإيحاءات تغلف كل شيء.
رحلة البحث في الأرشيف والساعات الطويلة في المكتبات يخوضها عنك اليوم موقع «غوغل».
لكن هل كان الإعلام منذ عشرين سنة بخير؟ الجواب: لا كبيرة.... لكن بالتأكيد كان أفضل من اليوم. فرغم القمع الذي طال الجسم الصحافي وتقييد حرية الرأي كانت الأخلاق الإعلامية محترمة إلى حد بعيد، وحافظ الصحافيون على المبادئ والأسس العامة.
في تلك الفترة كان التعبير عن الرأي مغامرة توصل إلى إحدى زنزانات وزارة الدفاع، وقد حللت ضيفاً في إحداها في الطابق السفلي تحت الأرض في مبنى وزارة الدفاع مع ستة أشخاص في غرفة صغيرة، وذلك بعد جلسة تحقيق طويلة معصوب العينين. حاول المحقق الضغط علي لانتزاع أي اعتراف لكني حافظت على برودة أعصابي بل حاولت تهدئته بالقول: «لازم تروق حتى أعرف جاوب»، ولما طلب من العسكري تكبيل يدي قلت بصوت فيه تحدي: لا داعي... فقد أتيت بسيارتي.
لا أنسى زنزانة وزارة الدفاع فقد نمّت في ذهني قيمة الحرية التي يجب أن ندافع عنها حتى لو مورس بحقنا قمع وسجن. اليوم الإعلام، وليس الصحافة، بلا ضوابط حيث ساهم «فيسبوك» و«تويتر» بتفلت عملية التواصل بين الناس وتحول كل شخص لديه حساب على مواقع التواصل إلى إعلامي يبدي رأيه بكل بساطة وبكل وقاحة وبكل بذاءة، بأي مسؤول مهما علا أو تدنى شأنه، حتى بات المسؤولون يغردون ليل نهار يشتمون بعضهم ويمدحون...
أنا كصحافي مع حرية الرأي إلى أبعد الحدود ولا يزايد علي أحد في هذا المجال لكن الحرية مسؤولية. الحرية ليست تقاذف اتهامات من دون أي دلائل. الحرية ليست تجريحا شخصيا، ليست كلاما بذيئا وقلة أخلاق. الحرية ليست سب الأنبياء والقديسين.
أنا مع وضع ضوابط لكن لا أن تتحول هذه الضوابط إلى استدعاءات مستمرة وعمليات كيدية تستخدم من فريق ضد فريق.
أدعو أخيرا الزملاء الصحافيين كي يحافظوا على هذه المهنة -الرسالة، ويضعوا ضوابط لمنع التفلت وعدم اقتحام المجال من قبل طارئين عليه من هواة الشهرة، وتنظيم نقابة تعنى بشأن الإعلاميين بشكل شفاف بعيدا عن التسييس والمصلحة الشخصية.
* إعلامي لبناني