الجواهري... الابن والأب

فرخ البط ليس عواماً غالباً في الأدب. أمثلة كثيرة في التاريخ الأدبي؛ عربياً وعالمياً، تؤكد ذلك. والعكس استثناء. ومن هذا الاستثناء فلاح الجواهري، ابن الشاعر العملاق محمد مهدي الجواهري، ولو كان استثناء نثرياً! ولكن حتى هذا الاستثناء لم يقترفه الابن إلا متأخرا، ومتأخرا جداً. قتل الأب ليس سهلاً أبداً، خصوصا إذا كان هذا الأب من طينة الجواهري، متنبي القرن العشرين كما يحب أن يسميه كثيرون.
بالترافق مع ذكرى رحيل الأب في 27 يوليو (تموز) 1997، نشر فلاح الجواهري مذكراته «ما ترك الشاعر للريح - الجواهري، شعراء، ومدن». هو لم يقل لنا ذلك، وربما الأمر صدفة، فالكتاب ليس مكرساً للأب، على الرغم من أنه يملأ صفحات كثيرة فيه. وقد صدر الكتاب عن دار نشر غير معروفة، ولا نعرف حجم توزيعها، وبمواصفات فنية متواضعة، كأن فلاح الجواهري يخجل أن يطل علينا، كأنه لا يجرؤ أن يقول للجميع: أنا كاتب أيضاً. أخرجوني من ظل الجواهري. لكنه خرج أخيراً، وهو في الثمانين من عمره، لتحصل المفاجأة. كاتب يعرف حرفته جيداً، وناثر من الدرجة الأولى. وفوق هذا وذاك، مجسة روائية تعرف كيف تلتقط الجوهري في حركة المجتمع والناس. يمر على الأشخاص، والأشياء، والأماكن، مروراً رشيقاً، كأنه لا يريد أن يجرحها، ولكن بعد أن التقط اللبّ فيها، وكشفه للشمس.
كنا قد كتبنا قبل فترة في هذه المساحة عن مذكرات صدرت لكتاب معروفين، لكن خرجنا منها كما دخلنا. لم نعرف منها غير ذوات متضخمة تكاد تختنق، وهوامش يومية لا تكشف شيئاً وراءها عن تاريخنا وواقعنا ومعاناتنا.
لا شيء من ذلك في مذكرات فلاح الجواهري. صحيح، إنه يروي لنا عن حياته ومسيرته، ولكن كل ذلك مرتبط بالآخرين، والتحولات العراقية والعربية والعالمية في تلك الفترة الصاخبة من عمر البشرية، منتصف الستينات وبعده، ليس عبر التنظير والتجريد، بل من خلال انعكاسها على شخصيات معروفة؛ عراقية وعربية، عرفها عن كثب، في تلك الفترة الاستثنائية، فنتعرف من الداخل على العراقيين غائب طعمة فرمان، وعبد الوهاب البياتي، ورشيد ياسين، والسودانيين الجيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن، والمصريين نجيب سرور ويوسف إدريس، ونسكن مدناً باضطراباتها، وحرارتها، وناسها المعذبين، وآمالها أيضا، من براغ وموسكو إلى القاهرة، ودمشق، وبغداد.
ماذا يمكن أن تفعل رواية ناجحة أكثر من ذلك؟
كان نجيب سرور، ذلك «المجنون» المصري الجميل، يدعو فلاح دائماً بـ«ابن الجواهري»، لم يدعه مرة باسمه الصريح، على الرغم من العلاقة الوثيقة بينهما حين كانا في موسكو معاً في الستينات.
يعاف فلاح موسكو إلى براغ... يترك براغ، حيث الجواهري، إلى الخرطوم، يعود إلى براغ، يتركها إلى بغداد زمن عبد السلام عارف معرضاً نفسه للسجن، على الرغم من اعتراض الجواهري، الذي كتب مرة عن عارف بعدما أصبح رئيسا للجمهورية بعد الانقلاب البعثي الفاشي 1963:
يا عبد حرب وعدو السلام يا خزي من صلى وزكى وصام
يكتب فلاح بعد أن كلفه الأب بإيصال رسالة إلى محمد أحمد محجوب، رئيس وزراء السودان عام 1965:
«هل أنا أنت يا جواهري؟ من تحسبني كي تضعني من حين لآخر أمام جهابذة الفكر والسياسة... تحرجني يا والدي كثيرا، فلست ضليعاً مثلك بالدنيا والناس... قد يتلبسني الهلع... قد يتلجلج لساني أو قد يصيبه العي أصلاً».
يعود إلى براغ، حيث الجواهري، بعد هجمة البعث الدموية الثانية عام 1979.
لماذا لم يفكر فلاح بقتل الأب مبكراً؟
كنا كسبنا روائيا من الدرجة الأولى.