الجامعات لا تواكب تطور صناعة الإعلام... والخريجون ليسوا مؤهلين

شكت مدربة إعلامية معاصرة تعمل في مجال الإعلام وتدرب في الوقت ذاته طلبة الإعلام الجامعيين في بريطانيا من أن هناك هوة شاسعة بين التطورات السريعة التي تفرض نفسها على عالم الإعلام و«الميديا الحديثة»، خصوصاً في التطبيقات الرقمية والفيديو، وبين ما يتم تعليمه للطلبة ويتأخر بسنوات عن مواكبة الإعلام الحديث. لكن هذه المعضلة ليست حديثة ولها سوابق كثيرة ويعاني منها العالم العربي أيضاً.
- شهادات عليا
في الجامعة الأميركية بالقاهرة، تم استحداث درجة الماجستير في الإعلام بمنتصف سبعينات القرن الماضي، والتحق بها الكثير من الطلبة من خريجي قسم الإعلام في الجامعة نفسها. ولأن معظم هؤلاء كان يعمل بالفعل في مجال الإعلام في ذلك الوقت، سرعان ما اكتشفوا الفارق الكبير بين ما يتم تدريسه وما يتم تطبيقه، حتى على مستوى الصحافة المصرية في ذلك الوقت.
وتبع ذلك شكوى جماعية من الطلبة اضطرت معها إدارة الجامعة إلى إدخال بعض التعديلات على البرنامج، منها إدخال عناصر التدريب العملي ضمن المنهج، واستضافة كبار رجال الإعلام لمشاركة الطلبة وعرض تجاربهم العملية، بالإضافة إلى تعديل المناهج النظرية لكي تأخذ في الاعتبار ما طرأ على صناعة الإعلام من تطور.
ومع ذلك؛ ظلت الدراسة الأكاديمية النظرية أساساً قوياً لطلبة الإعلام في مستقبلهم العملي، خصوصاً فيما يتعلق بأسس الحوار والإقناع. فمن ضمن النظريات التي تم تدريسها في ذلك الوقت، أن المشارك في حوار إعلامي مع شخصية أخرى على النقيض في الآراء يكتسب بعض هذه الآراء المعاكسة بعد حين، ويتحول تدريجياً إلى مزيد من الاعتدال في حواراته المستقبلية. وفي بعض المجالات كانت آفاق الدراسة تذهب إلى ما هو أبعد من التطبيقات العملية في التجديد والابتكار.
- مناهج تفتقر إلى المرونة
عودة إلى مدربة الإعلام، وتدعى ليسيت جونسون، وتعمل في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إلى جانب عملها مدربةً إعلامية ومديرة تحرير في الوقت نفسه، حيث تقول، إنها كانت تشعر بأنها تعيش حياة مزدوجة بين العمل الإعلامي وتدريس الإعلام. وفي حوارات لها مع الطلبة اعترفت بأن الدورات التي تقوم بتدريسها تحتاج إلى تحديث لكي توافق متطلبات العمل في مجال الإعلام الحديث.
لكنها من تجربتها الأكاديمية تعرف أيضاً أن الجامعات ليست مجهزة لكي تكون مرنة، ومن الصعب تغيير المناهج بسرعة. وقال أستاذ في جامعة لندنية، إنه انتظر أربع سنوات من أجل الموافقة على إدخال تعديلات على المنهج الذي يقوم بتدريسه.
وتعاني من معضلة عدم التوافق بين التدريب وبين المهارات المطلوبة كافة الصناعات الابتكارية، مثل صناعة السينما، حيث شكا معهد السينما البريطاني في عام 2107 من أن التدريب الذي يتلقاه الطلبة غير مفيد، بل أحياناً يكون متضارباً مع الواقع مع انعدام النصيحة حول العمل في هذا المجال، أو التحول من المجال الأكاديمي إلى المجال العملي.
وتعاني برامج تعليم الإعلام من التركيز على الجوانب النظرية، التي لا تمنح الطلبة فرصة عملية كافية ولا معلومات تقنية مفيدة في مستقبلهم في الصناعة. وفي معظم الأحيان تتأخر الجامعات عن الركب، حيث يسود الاعتقاد في دورات 2018 الإعلامية أن المحاكاة ونظم الفيديو المحيطة، وتسمى 360 درجة، هي من التطورات الحديثة بينما هي في الواقع تقنيات معتادة في الصناعة ومستخدمة منذ سنوات عدة.
- مهارات جديدة أساسية
يعترف مدربو الإعلام بأن المهارات التي كانت تقتصر على قطاعات معينة في الماضي أصبحت الآن من الضرورات لكل من يريد أن يعمل في مجال الإعلام. وتشمل المهارات المطلوبة التعامل مع الفيديو والقدرة على إجراء المونتاج على الأفلام المصورة.
من ناحية أخرى، يمكن لصناعة الإعلام أن تستفيد من المجال الأكاديمي، حيث تشير الأبحاث الحديثة إلى أفضل الوسائل للتعامل مع التغطية الإعلامية وإهمال الأخبار الكاذبة. فهناك الكثير من القضايا التي تؤثر على الإعلام سلباً وتحتاج إلى البحث الأكاديمي، حيث لا يستطيع الإعلاميون قضاء الكثير من الوقت في الأبحاث خارج التغطية الإعلامية العملية.
وأحياناً يكون الأكاديميون أنفسهم مسؤولين عن هذا الانشقاق بين ما تنتجه الجامعات وما ينشر ويبث في وسائل الإعلام. فالأساتذة يفضلون في معظم الأحوال نشر أبحاثهم في الدوريات العلمية ويرفضون ما يعتقدون أنه تدني مستواها بالنشر الإعلامي العام. وهذا يعني أن الاستفادة من هذه الأبحاث تقتصر فقط على من يطلع على الدوريات الأكاديمية ويحرم منها الرأي العام.
- تدريب وخبرات عملية
ويرى باحثون أن إحدى أفضل وسائل تعليم طلبة الإعلام المهارات العملية المطلوبة في الصناعة، هي أن يتم المزج بين التدريب الجامعي والخبرة العملية في وسائل الإعلام. ويحدث هذا بالفعل في الكثير من المجالات الأخرى، مثل الطب والهندسة والأعمال. ولا يعني هذا الاستغناء عن الخبرة الأكاديمية، فمهما كانت مقدرة رجال الإعلام العملية إلا أنها لا تعني أن لديهم قدرة على التدريس وتوصيل المعلومات إلى الآخرين، خصوصاً في المجال الرقمي أو في إدارة الأعمال.
ويقول البروفسور جون سيلفرمان، أستاذ الميديا في جامعة بيدفورد البريطانية والمحرر في «بي بي سي» سابقاً، إن الجمع بين المعلومات الأكاديمية والعملية ضرورة لكل صحافي في تخصصه. فعندما كان محرراً عسكرياً كان لزاماً عليه دراسة دورات في الإسعاف الأولي، وفي كيفية تجنب الألغام، وأيضاً في القانون الدولي.
وهو ينصح الإعلاميين الجدد بقراءة كتاب «عن الحرية» للفيلسوف جون ستيوارت ميل، فمن يقرأ هذا الكتاب عن حدود الحرية لا يمكن أن يقع في أخطاء بدائية مثل رسوم الكارتون المسيئة للمسلمين. وتقدم بعض الجامعات البريطانية ومنها جامعة بيدفورد، درجات علمية وعملية بناءً على خبرة الطلبة المتقدمين. وتشمل هذه البرامج ثلاثة أجزاء، منها الجزء الثاني الذي يتكون من بحث طوله 50 ألف كلمة عن مشروع أو تحليل لقضية إعلامية عملية. وإذا نجح الطالب في الأجزاء الثلاثة ينال درجة الدكتوراه.
ومما يذكر أن رسالة أحد الطلبة في هذا البرنامج كانت على برنامج «بانوراما» التلفزيوني البريطاني الذي كشف عن فساد إدارة هيئة «فيفا» المشرفة على منح تنظيم مباريات كأس العالم في دورتي 2018 و2022.
وفي عام 2016، استضافت الجامعة الأميركية في القاهرة دورة حول تطوير تعليم الإعلام في منطقة جنوب المتوسط بمشاركة ورعاية من الاتحاد الأوروبي عبر برنامج «ميد ميديا». وفي جلسة حول الفجوة بين تعليم مادة الإعلام أكاديمياً وبين المهارات المطلوبة في عالم الإعلام المعاصر، كان الاستنتاج أن معاهد الإعلام حالياً لا تستطيع أن تجاري التطورات السريعة في الصناعة.
وعبّر أكثر من خبير أوروبي مشارك في الدورة عن أهمية التعاون بين المؤسسات الإعلامية وبين معاهد التدريب كما أكدوا على التزام الاتحاد الأوروبي بتحسين نوعية تعليم الإعلام في المنطقة. واتفق المشاركون على إنتاج كتيب حول التحديات التي تواجه دراسة الإعلام في المنطقة وطرق توفير الحلول لها. وسوف يكون هذا الكتيب بمثابة دليل لأفضل أساليب ممارسة الإعلام في المنطقة.
- دول الخليج تحاول سد الفجوة
تعاني منطقة الخليج أيضاً من مشكلة الفجوة بين مستوى التعليم الأكاديمي السائد وبين المهارات العملية المطلوبة في سوق العمل. وقدم ويل كوبر، الشريك في مؤسسة استشارية للبنية التحتية في الإمارات بحثاً مطولاً عن القضية، التقى من خلاله بالكثير من المديرين والطلبة في جهد لسد الفجوة بين الطرفين. واقترح كوبر أربع وسائل لسد هذه الفجوة، هي التنسيق بين المناهج وبين احتياجات الشركات، وتوفير المعلومات حول مجالات التوظيف في سوق العمل وتطوير قوة عمل تعتمد على الخبرة والتدريب، وأخيراً تشجيع ثقافة التجديد والابتكار في مجال الوظائف وإدارة الأعمال.
وعلى رغم أن بحث كوبر يتعلق بالصناعة بوجه عام، فإن المعايير المطبقة في مجالات أخرى تصلح أيضاً لمجال الإعلام والصحافة، خصوصاً فيما يتعلق بضرورة التدريب، بالإضافة إلى التعليم الأكاديمي.
وأخيراً، لا بد من مقاومة فكرة أن الصحافي يمكن أن يعتمد على الخبرة فقط، ولا يحتاج إلى تعليم أكاديمي، حتى ولو كانت هناك فجوة بين التعليم والتطبيق. فالصحافي المتعلم والمنفتح على نظريات الإعلام الحديثة أفضل دوماً من الصحافي متواضع الإمكانات الأكاديمية.
- مناهج الإعلام العربية تقدمت نظرياً وتأخرت عملياً
> تبدو مناهج الإعلام الجامعية العربية متقدمة وشاملة من الناحية النظرية، حيث يتم تدريس نظريات الإعلام والتواصل، إضافة إلى مداخل في علم النفس واللغة العربية، يضاف إليها في الصف الثاني تقنيات الإعلام، وإعداد البرامج الإلكترونية، ومفهوم البحث الإعلامي، بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية.
وفي الصف الثاني أيضاً، يضاف في نصف السنة الأخير موضوعات حول الرأي العام والتشريعات الإعلامية، ثم ينتقل المنهج في الصف الثالث إلى العلاقات العامة والإنترنت والشبكات الفضائية مع استمرار تدريس اللغة الإنجليزية.
وفي العام الرابع والأخير، يتم تدريس الحرب النفسية وإدارة المؤسسات الإعلامية وحقوق الإنسان واقتصاديات الإعلام والإعلام الدولي. لكن الغريب أن تدريس اللغة الإنجليزية يتوقف في الصف الأخير ويحل محله موضوعات ليست بالأهمية ذاتها، مثل الإعلام البيئي والإعلام والعولمة.
ما تعاني منه كليات الإعلام العربية، وهو ما عبر عنه بعض الطلبة الدارسين للإعلام، هو ضعف فرص التدريب العملية في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والإلكترونية. ويكتشف الطلبة أن مناهج الدراسة لا تكاد تلاحق التطورات التي تطبقها وسائل الإعلام المختلفة، بحيث يحتاج الخريج إلى فترات تدريب إضافية قبل اعتماده صحافياً أو مخرجاً.
هذه الإمكانات توفرها الجامعات الأجنبية التي ترتبط بعلاقات متينة مع المؤسسات الصحافية الخاصة بحيث يمكن لطلبة الإعلام التعرف على أحدث تقنيات العمل وتسجيل إنتاج إعلامي يمكن أن ينشر فعلياً في الصحف، أو يبث على التلفزيون، أو مواقع الأخبار على الإنترنت. ولبعض الجامعات صحفها واستوديوهاتها الخاصة التي تضارع أحدث المتوفر في عالم الواقع، إضافة إلى التمرس على التعامل واقعياً وأكاديمياً مع وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة.
وقد كانت الفجوة كبيرة في الماضي، لكنها تتقلص الآن مع تعرف الجامعات العربية على وسائل التدريس والتدريب الحديثة.