هاجس الأدوار الإقصائية لم يعد يخيف كرواتيا

عاد لوكا مودريتش بذهنه إلى بطولة «يورو 2008»، مثلما الحال مع جميع أبناء كرواتيا. وكان حارس المرمى الكرواتي دانيال سوباسيتش أنقذ زميله مودريتش أبرز نجوم الفريق من سكين الانتقادات على ركلة الجزاء التي أهدرها قبل أربع دقائق فقط من نهاية الوقت الإضافي لمباراة فريقه أمام الدنمارك في الدور الثاني (دور الستة عشر) لبطولة كأس العالم 2018 بروسيا، التي كان من شأنها حسم اللقاء بعيداً عن ركلات الترجيح. ورغم هذا، كان جل تفكيره منصباً على تركيا.
كانت الهزيمة التي منيت بها كرواتيا على يد تركيا قد تركت أثراً غائراً شوه جيلاً بأكمله من لاعبي وعاشقي كرة القدم في كرواتيا. كانت كرواتيا قد دخلت في مواجهة مع تركيا في دور الثمانية من بطولة أمم أوروبا ـ وكانت أول مواجهة إقصائية آنذاك ـ وعندما نجح المهاجم إيفان كلاسنيتش من تسجيل هدف لبلاده في الوقت الإضافي لتصبح النتيجة 1 – 0، بدا الفوز قاب قوسين أو أدنى بالنسبة لكرواتيا.
كانت مباراة عصيبة، وعلى نحو يصعب تصديقه تمكن التركي سميح سنتورك من تسجيل هدف التعادل لبلاده في الدقيقة الـ122، وفي هذه اللحظة، انهار المنتخب الكرواتي وهزم في ركلات الترجيح. وأخفق مودريتش في إحراز الركلة التي تصدى لها، وكذلك إيفان راكيتيتش. بدت التشابهات بين هذه المباراة ومباراة الدنمارك حية في الأذهان. عام 2008، نجحت كرواتيا في اجتياز دور المجموعات بسهولة واضحة وفازت في المباريات الثلاث، بما في ذلك فوزها أمام ألمانيا بنتيجة 2 – 1، وخلال البطولة، قدم المنتخب الكرواتي في المجمل أداءً جيداً. إلا أنهم انهاروا أمام تركيا، وفجأة بدا أن روح التناغم التي لطالما ميزتهم تلاشت وتبخرت، وكذلك روح المغامرة والإقدام.
هنا في روسيا، فازت كرواتيا أيضاً في المباريات الثلاث في دور المجموعات، بما في ذلك سحقها الأرجنتين بنتيجة 3 - 0، وبدا أداء كرواتيا قوياً وسريعاً ومباشراً. ثم تمكنت في دور الثمانية من إخراج الروس أصحاب الأرض لتلتقي مع المنتخب الإنجليزي اليوم في نصف النهائي.
ولا تقتصر القصة على ذلك، وإنما خلال بطولة «يورو 2016» حصدت كرواتيا سبع نقاط من إجمالي تسع متاحة أمامها لتتصدر مجموعتها. ونجحت في هزيمة إسبانيا بنتيجة 2 - 1 في المباراة الأخيرة من دور المجموعات. إلا أنها لم تقدم أداءً جيداً أمام البرتغال في دور الـ16، وانتهى الوقت الأصلي وشارف الوقت الإضافي على النهاية بنتيجة 0 - 0، لكن قبل لعب ركلات الترجيح فاجأ الجناح ريكاردو كواريسما منافسه وسجّل هدف الفوز للبرتغال في الدقيقة الـ117.
منذ بطولة كأس العالم عام 1998، عندما تمكنت كرواتيا من الوصول إلى دور قبل النهائي، لم تفز بأي مباراة إقصائية، سواء في كأس العالم أو بطولة أمم أوروبا؛ ما يعتبر أمراً لافتاً للغاية بالنظر إلى حجم المواهب التي تزخر بها صفوف المنتخب. وقبل هزيمة الدنمارك في دور الستة عشر ثم تخطي الروس في دور الثمانية، لم تشارك كرواتيا من الأساس في أي مباراة إقصائية ببطولة كأس العالم. لذا؛ عندما شاهد مودريتش ركلة الترجيح التي أطلقها يتصدى لها حارس مرمى الدنمارك، كاسبر شمايكل، عادت أشباح الماضي تتراقص أمام واجهه. إلا أن تسجيله أمام روسيا في ركلات الترجيح وتأهل بلاده إلى نصف النهائي ابعد عن هذه الهواجس والأشباح.
ويكاد يكون في حكم المستحيل تخيل حجم الضغوط التي كانت على عاتق اللاعبين وهم يتصدون لركلات الترجيح في مواجهتي الدنمارك وروسيا، وإن كان مدرب المنتخب الدنماركي أوجه هاريدي قد طرح تصوراً قيماً في هذا الصدد، وقال «أثبتت أبحاث أنه أثناء أداء ركلات الترجيح، ترتفع معدلات الأدرينالين والضغط العصبي داخل الجسم على نحو يكافئ الوضع أثناء المشاركة في ميدان حرب». من جانبه، وبالعودة إلى مواجهة الدنمارك، تصدى مودريتش لركلة الترجيح الثالثة لكرواتيا في وقت كان فريقه متقهقراً عن خصمه بنتيجة 2 - 1. جاءت الكرة التي ركلها بقوة أقل هذه المرة، وبدا التردد منعكساً على مسارها في وسط طريقها إلى المرمى، ولابد أن قلبه في تلك اللحظة تحديداً كاد أن ينخلع من صدره، وذلك عندما مد شمايكل، الذي كان قد تحرك نحو اليسار، ساقه في محاولة لإنقاذ مرماه. إلا أن الكرة اقتحمت المرمى بالفعل.
في هذه اللحظة، نجح مودريتش في الحصول على شهادة انتصاره في أشرس المعارك الشخصية التي خاضها وكذلك على مستوى الفريق الذي ينتمي إليه. وعندما نجح حارس مرمى كرواتيا، دانييل سوباشيتش، في التصدي لركلة الترجيح الثالثة على مرماه، بدا الطريق ممهدة أمام راكيتيتش ليؤكد الفوز. وفي مشهد جديد من قصة التطهر من آثام الماضي، وجدت الكرة التي أطلقها راكيتيتش طريقها إلى المرمى، لتنفجر ثورة من الفرحة العارمة أرجاء كرواتيا ويتنفس أبناؤها الصعداء. عن هذه المباراة، قال مودريتش «يكشف هذا الفوز الكثير من روحنا. لقد سبق وأن قلت قبل المباراة إنه منذ عام 2008 لم نتجاوز قط المباراة الأولى في أدوار الإقصاء، وكان من المهم للغاية بالنسبة لنا التخلص من هذا الشبح. وقد أنجزنا ذلك بالفعل. ولم يكن الأمر سهلاً؛ لأن ذكرى مباراة تركيا كانت لا تزال عالقة في أذهاننا. أعتقد أنها كانت عالقة في أذهان الجميع؛ لأن تلك الهزيمة كانت قاسية للغاية علينا جميعاً». وأضاف «بعدما أهدرت ركلة جزاء في الدقائق الأخيرة، كنا في حاجة إلى شخصية قوية وروح متماسكة كي نحافظ على رباطة جأشنا ونركز اهتمامنا على المباراة ونفوز بها. وأعتقد بعد هذه النتيجة، أصبح بمقدورنا أخيراً نسيان أمر تركيا. أما عن سؤال: هل ستبدل هذه المباراة أسلوب تفكيرنا؟ آمل ذلك وهذا ما حدث بالفعل في مواجهتنا مع الروس أصحاب الأرض».
تنبغي الإشارة في هذا الصدد إلى أن مودريتش، في أعقاب إهداره ركلة الجزاء، استمر في السعي وراء الاستحواذ على الكرة، ولم يهرب أو يختبئ. ولم يكن ثمة شك بخصوص مشاركته في ركلات الترجيح نهاية مباراة الدنمارك ثم مواجهة روسيا.
الأمل اليوم أن تعيد كرواتيا، التي كانت أفضل فرق البطولة خلال دور المجموعات، اكتشاف حريتها. في الواقع، نادراً ما بدا مودريتش على هذه الدرجة من السعادة بعد مباراة وقد ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه أثناء حديثه إلى المراسلين بعد مباراتي الدنمارك وروسيا. أما المواجهة التالية بالنسبة لكرواتيا فتأتي اليوم أمام إنجلترا في نصف النهائي.
من جهته، أشار مودريتش إلى أنه: «منذ المباراة الأولى في هذه النسخة من بطولة كأس العالم، أظهرنا شخصية وعقلية جيدتين. وأظهرنا هذه السمات من جديد أمام الدنمارك ثم أمام روسيا. هذا الفريق يملك شخصية مميزة، هذا أمر لم يعد يرقى إليه الشك. إلا أننا الآن في حاجة إلى المضي قدماً، فهذا الفريق في استطاعته تحقيق أكثر عن ذلك بكثير وأكثر من التأهل للدور نصف النهائي. وآمل أن نتمكن من ذلك».