مساع لإنقاذ اللغة العربية في لبنان

ليس بمستغرب كثيرا التراجع في اللغة العربية عند اللبنانيين، لكن النتائج الأخيرة للشهادة المتوسطة «البريفيه» في عام 2013 جاءت مفاجئة، حيث نجح من أصل 61 ألف طالب خاضها 20 ألفا، أي بنسبة 33.7 في المائة، وهي النسبة الدنيا، ربما، منذ بدء الامتحانات الرسمية.
لغة الضاد التي بات يستصعبها الطلاب؛ وصفها، ذات يوم، أحد المفكرين الكبار في الغرب المسيحي، فيكتور بيرار، بأنها «أبسط وأقوى وأرق لغة في العالم، أكثر اللهجات الإنسانية مرونة وروعة، كنز يزخر بالمفاتن ويفيض بسحر الخيال وعجيب المجاز، مهذب الجوانب، رائع التصوير».
والسؤال: هل الأمر يحتاج إلى تعديل في مناهج اللغة العربية، أم في تبسيط طرق تدريسها، أم في أسس التصحيح؟ ربما الأمور الثلاثة معا، لكن الأهم أن لغتنا الأم تتراجع أكثر فأكثر. ويقول الدكتور والأديب ميخائيل مسعود في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «إن الخلل يبدأ من الهيئة الإدارية وطبيعة عملها الخاطئ، بحيث لا توزع المواد على الأساتذة وفق اختصاصهم، فلا إدارة كما يجب، بل هناك الطائفية والمذهبية والتسلط والسياسة، وقد أصبحت بعض المدارس سلطة تجارية أكثر مما هي تربوية».
ويوضح: «أسباب هذه النكسة الحقيقية كثيرة، وهي تراكمت عبر السنوات الأخيرة، منها ما يعود إلى عدم اهتمام الأهالي باللغة العربية وتباهيهم باللغات الأجنبية، وإلى كثرة الدروس والمواد الملقاة على كاهل الطالب من دون تخصيص ساعات مطالعة له».
ويضاف إليها أيضا المناهج التربوية البالية والمأخوذة عن المنهاج الفرنسي، الذي خضع بدوره لأكثر من ثلاثة تغييرات في موطنه الأصلي.
ومما لا شك فيه أن نسبة الرسوب مخيفة، وتعكس خطرا حقيقيا محدقا بلغتنا الأم، لغة أجدادنا التي من أبسط حقوقها علينا أن نحافظ عليها، وننقلها بأمانة ورعاية للأجيال اللاحقة.
في المقابل يشير خبراء تربويون إلى أن التقصير يشمل أيضا المعلمين الذين يلعبون دورا أساسيا في تراجع مستوى اللغة العربية، حيث إن معظمهم لا يتكلمون اللغة الفصحى مع الطلاب في الصف، وبعضهم غير جدير بتعليم اللغة، فلا مراجع محترفة، ولا طرق تعليمية مثمرة، فبعض المعلمين يعتمدون الحفظ الببغائي ويرفضون التطوير ولا يحبذون الدورات التدريبية.
ومن الأسباب أيضا بعد مراكز التدريب عن مكان سكن الأساتذة والمعلمات، فمثلا في منطقة شمال لبنان لا يوجد مركز تدريب إلا في منطقة أبي سمرا، وليس هناك من مركز لا في عكار أو بشري أو زغرتا وفق ما يجمع عليه بعض المستشارين التربويين.
أما عن الخطوات العملية التي تحد من هذا التدني وتمنع تكراره في السنوات المقبلة، فيلفت عمر أبو عرم، رئيس قسم اللغة العربية في المركز التربوي للبحوث والإنماء: «غايتنا التطوير في كفاءة مدرسي اللغة العربية وفي اختيار طرائق تدريس جديدة لها وفي توصيف مسابقاتها، كما التطوير في المعايير المتعلقة باختيار أعضاء لجان وضع الأسئلة في الامتحانات الرسمية وفي اختيار مصححي المادة». وبهدف تحقيق ذلك قام المركز بإعداد بحث بعنوان «تعلم اللغة العربية وتعليمها في صفوف الشهادة المتوسطة - الحلقة الثالثة - محتوى طرائق وتقييم» وكان التركيز على إطارين نظري وميداني.
ويتركز الإطار النظري على مراجعة موجزة للدراسات والأبحاث المتعلقة باللغة العربية، من عدد حصصها إلى طرائق تدريسها، إلى توقيتها، كما يتضمّن مراجعة المعايير المعتمدة لاختيار أعضاء لجنة وضع الأسئلة ومصححي المسابقات.
أما في الميدان فيؤكد أبو عرم القيام بدراسة الكتاب المدرسي والمناهج، والمباشرة بتوزيع الاستمارات على المدارس، حيث يجب أن يجيب عليها الأستاذ والطالب معا، ويلي ذلك إجراء مقابلات مع المديرين والمنسقين التي ستشهد طرح جميع العوائق التي تعوق اللغة العربية عبر هذه الاستمارات.
ويكشف أبو عرم: «نحن اليوم أنهينا تقريبا ثلاث مراحل من المراحل الأربع التي يتضمنها البحث، وذلك لتحديد أسباب رسوب الطلاب وتدني مستواهم، فيما ستتضمن المرحلة الخامسة وضع التقرير النهائي كي نرفعه إلى رئيسة المركز التي بدورها ترفعه إلى وزير التربية».
وهنا يقترح أحد المرشدين التربويين إدخال المعلوماتية في طرق التدريس، حيث إنه لم يشكل حلا جذريا سيسهم ولو جزئيا في حل المشكلة. فيما يتعلق بمسابقة اللغة العربية التي طرحت، يشدد أكاديمي تربوي على أنها كانت سهلة كثيرا، وأن النص كان للأديب اللبناني المعروف مارون عبود، وهي أتت وفق المعايير المتبعة في الامتحانات.
ويقاطعه مشرف تربوي بالقول: «الأسئلة بسيطة حقا، لكن القسم الأكبر من الطلاب لم يستطع الإجابة عنها؛ لأنه ليس لديهم ثقافة ومعرفة، عنصران غائبان بسبب الابتعاد عن المطالعة والتحليل، والانشغال بالإنترنت والرسائل النصية التي تكتب بلغة الإنترنت، وهذا سبب مهم حيال التراجع الكبير».
معطيات تقودنا إلى التذكير بأن اللغة، أي لغة، سواء كانت حية أم متراجعة، علمية أم شعرية، تبقى من أخص خصائص الأمم والشعوب، تبقى غذاء عقلها وروحها وعاطفتها، ركيزة من ركائزها الأساسية المرتبطة بهويتها وتاريخها وحضارتها.
واللغة بهذا المعنى تتحول إلى هوية غير قابلة للمجادلة، كل إهمال لها ينعكس سلبا على الأمة، ومتى أصبحت الهوية مستلبة، تخلفت الأمة في بنائها الحضاري، الفكري، السياسي، الاجتماعي، ذلك لأنها تشكل في الآن نفسه قاعدة واستثناء في هذا البناء. في الختام، يبدو أن القيمين على التربية والمهتمين بشؤون اللغة العربية في لبنان قد استيقظوا من سباتهم، وأدركوا مدى هشاشة لغة الضاد في صدور براعم المستقبل وألسنتهم، وجهزوا العدة والعتاد لمداواة الواقع المخزي، وأيقنوا أن عجلة الانطلاق إنما تبدأ من وضع خطة طوارئ لتعليمها في المدارس بأطر منهجية ومنظمة، ليصلوا إلى حلول مرضية ومثمرة.