ثنائية الحرب والحب

«- ما مهمة الشاعر؟
- أن يكتب قصيدة.
- ما مهمة القصيدة؟
أن تمنح باباً للجدار الأصم».
يكاد هذا المقطع القصير من مجموعة «سادن الحبر»، للشاعر باسم المرعبي، أن يكون بؤرة اشتغال القصيدة التي تنبثق بأشكال متعددة عبر المجموعة، ومفاتيحها وأقفالها.
كل قصيدة لدى المرعبي، هنا، بالعموم، هي محاولة لمنح باب لجدار أصم، بتنويعات ومقترحات ومخترعات.
«منح باب لجدار أصم» ديدن الشعر عبر تاريخه، لكن لكل شاعر تاريخه الشخصي وسيرته الذاتية، وهو يمنح باباً لجدار أصم، يميزانه عن غيره ويكسبان سحنته ملامحها ولونها وإيماءاتها، عبر اللغة.
تسير قصيدة المرعبي، في هذه المجموعة، بطاقة الفكرة، فكرتها، لا بخدعة البلاغة ورنين العروض الممل، رغم وجود قصائد كتبت بما يسمى «التفعيلة» - مثل قصيدته بعنوان (محمود البريكان) التي تماهى فيها، وعبرها، مع أكثر الأوزان التي تداولها البريكان:
«رسالةٌ مختومةٌ بالشمعْ / بطابعٍ من دمعْ / ودون أن تُقرأْ / هذا هو محمود البريكانْ / رسالةٌ ضائعةٌ / عنوانها الإنسان / قد تصل الآن، وقد تأخذُ أجيالاً، ولكن / دون أن يدركها النسيان…».
من لا يعرف البريكان، فليبحث قليلاً، ليجد الكثير.
لا يكاد يخلو ديوان شعر عراقي، منذ ثمانينات القرن المنصرم، من ثنائية الحرب / الحب. كأن الحرب، في قصائد العراقيين، تُشن ضد الشعر، ليتصدى الشعراء، دفاعاً عن النفس، بالحب. جبهتان متقابلتان، أبداً، مشتبكتان دائماً.
حتى في لحظة السلام النادرة، أو في غلطة الهدنة الحائرة، تدخل المرأةُ القصيدةَ مثل حادثة مفاجئة من أجل صناعة معادلة غير متوازنة، فما الذي بمقدور كائنات صغيرة، عزلاء، مثل المرأة والشاعر والقصيدة والحب، أن تفعله خلال الحرب؟
لا شيء. لكن ثمة ضوءاً ينبئ بحضور المرأة وسط العتمة:
«لا الكلمات ولا الرموز / يمكن أن تسدي ما في دمي لكِ / فقط، افتحي الباب الذي يقود منكِ إلي أو مني إليك / لتعرفي عدد الكلمات القتيلة في جسدي / وهي تحاول أن تنبه الأجراس حول جسدكِ / لتعرفي الطيور المحنطة في سمائها / بعد أن أضاعت ما حملتها لكِ / لا الرموز، لا الكلمات / لا شيء يجدي / فقط ضوؤكِ المنهمر كالصلاةِ في كياني / كلحظة سلام بعد حربٍ / أو لحظة حرب بعد هدنة / يمكن أن يُنبئكِ عن حضوركِ فيّ».
لا مفر من إدراج هذه القصيدة كاملةً وفق ما يقتضيه بناؤها المعماري، إذ لا يجوز الاجتزاء لأنها حكاية صغيرة عن الحب / الحرب. وعن «الباب الأصم» الذي يدعو الشاعرُ المرأةَ لتفتحه. أما التشبيه، فلا حاجة لنا بتوضيحه: سلام، حرب، هدنة، وهذا كافٍ مما يطوق الكائنات العزلاء.
في قصيدة عنوانها «أحلام الشاعر» عودة إلى تلك النافذة في «الباب الأصم».. أحلام الشاعر ليست سوى نوافذ لاختراق الواقع (الأصم).
الحلم صناعة شعرية للنافذة، محاولة للإطلالة على أفق مختلف، اختراق صغير لكتلة صماء.
الحلم هو المكافأة الوحيدة التي يجنيها الشاعر الزاهد بالتصفيق والجوائز والتلويح بالمناديل الملونة.
أحلام الشاعر مزمنة، فهي تتشكل على مدار الزمن: قبل الشروع بالقصيدة وخلالها وبعدها، حتى لو لم يكتب، إذ يكتفي بعرض أحلامه، كأنها سلعته الوحيدة، وإن كانت بائرة:
«لا ينتظر الشاعرُ / تصفيقاً / أو تلويحاً بمناديل ملونة / حسبه أن يُصغي.. / وإذا ما صادف القارئُ / الجميلَ والمدهشَ أو المبهجَ في قصيدة / فما ذلك إلا لأن الشاعرَ يعرضُ أحلامه».
حسب الشاعر أن يصغي. للحياة همسها المسموع كما في المسرح، لحوار الذات، للقارئ الذي «يصادف» الجميل والمدهش أو المبهج، أي أن القارئ، هنا، رغم شراكته، فهو لا يقصد ولا يبحث ولا يكدح، إنه «يصادف»، و«إذا» أداة شرط غير جازمة ولا حاسمة.
لا شكل ثابتاً لدى هذا الشاعر، فالنصوص متغيرة، متحولة، تجريبية أحياناً، وبنت تجربة الشاعر في كل حين.
مزاج قصيدته عكرٌ وصافٍ. هذا سمة شعرية.. القصيدة مرآة الشاعر.
تلك المرآة من أصدق أنواع المرايا، فحيث تكون روح القصيدة يكون وجهها.
تنبع قصيدة المرعبي من المنطقة الملتبسة لوجوده، ووجود الشاعر هو محصلة الحب والخيبة والألم والترقب.
في كل قصيدة ثمة اقتراح غير مؤكد، مثل باب موارب لا يتيح للناظر أن يرى بشكل كامل، واضح، تفصيلي.
مراجع هذه المجموعة ليس ثلاثة شعراء صدر بهم (لوركا وكاردينال وبورخيس). هم إشارات طريق. طريق تبدأ ولا تصل، حيث الطريق أهم من الوصول.
مراجع المجموعة جملة اختلاطات واختلافات عبر الذاكرة وتشكّلات اللغة ومكابدات الرحيل والإقامة والعض على المنطقة الأكثر وجعاً لكي لا تفلت للإبقاء عليها جذوة مشتعلة في الطريق إلى القصيدة التي لن يبلغها الشاعر، أياً كان ادعاؤه، وإلا لكف عن الكتابة.. عن الشعر.
وحسب بورخيس، أيضاً، ولكن في مكان آخر: «الشاعر يلاحق قطة سوداء في غرفة مظلمة».
هل قال بورخيس ذلك لأنه كفيف؟
كلا، إنه قول يشمل المبصرين، بل الأشد بصراً بين البشر: الشعراء.