إنييستا: بذلت أقصى ما في وسعي ولم يتبق شيء أقدمه

جلس النجم الإسباني أندريس إنييستا بمفرده في وسط أكبر ملعب في أوروبا في وقت متأخر من الليل والأضواء خافتة بعدما رحل الجميع، وجلس وهو يرتدي زي نادي برشلونة لكنه خلع الحذاء والجوارب لكي تشعر قدماه بأرضية ملعب «كامب نو»، الذي طالما صال وجال على كل شبر منه. كانت هذه هي لحظة وداع إنييستا لنادي برشلونة الإسباني الذي تألق معه على مدى سنوات طويلة وقاده إلى منصات التتويج وقدم لمحات فنية رائعة جعلته أحد أساطير برشلونة وكرة القدم العالمية ككل.
يقول إنييستا: «لقد كان من الجيد بالنسبة لي أن أجلس هناك، فقد كانت لحظة مؤثرة بيني وبين الملعب واستمتعت بها كثيراً. لقد أردت فقط أن أقول وداعا للمكان الذي نشأت به، فكل ركن من أركان ملعب كامب نو يحمل ذكرى بالنسبة لي. لقد كانت لحظة قوية وقاسية وعاطفية للغاية». ويرحل إنييستا عن نادي برشلونة بعدما قضى به 22 عاما، من بينها 16 عاما مع الفريق الأول، كما يرحل عن إسبانيا كلها.
وأشار الرسام الإسباني إلى أنه رغم أنه «لم يكن من السهل أن يقول وداعا للنادي، فقد استوعب الأمر بشكل جيد». لكن الأمر لم ينته بالكامل، لأن إنييستا لم يعتزل كرة القدم وسيكمل مشواره في عالم الساحرة المستديرة مع نادي فيسيل كوبي الياباني. وقبل ذلك، سوف يشارك إنييستا، 34 عاما، مع منتخب إسبانيا في نهائيات كأس العالم القادمة بروسيا، بعد أن سجل أهم هدف في تاريخ كرة القدم الإسبانية وقاد منتخب بلاده للفوز بكأس العالم لأول مرة في تاريخه عام 2010 بجنوب أفريقيا.
يقول إنييستا، وهو يجلس في مقر المنتخب الإسباني في لاس روزاس قبل ساعات من السفر إلى روسيا: «ستكون هذه آخر مشاركة لي في كأس العالم. لا أعرف ما إذا كانت مسيرتي مع المنتخب الإسباني ستنتهي تماما أم لا، لكن هذه البطولة قد تكون الأخيرة بالنسبة لي. في شهر يوليو (تموز) المقبل سوف نجلس لنحلل كل شيء، وسأكون عندئذ قد شاركت في أربع بطولات لكأس العالم، ولن أشارك في المونديال مرة أخرى. أنا عازم على الاستمتاع بكل لحظة في هذه البطولة لأنني أعرف أنها ستكون الأخيرة، لكنني لن أتعامل معها على أنها البطولة الأخيرة، وسأخوضها وكأنها أول بطولة بالنسبة لي. الرغبة لم تتغير، لكن الوقت هو الذي تغير».
وكان لدى إنييستا إصرار كبير على إنهاء مسيرته وهو في القمة، على غرار النجم الفرنسي زين الدين زيدان الذي رحل عن ريال مدريد عام 2006 في نفس العام الذي قاد فيه منتخب فرنسا للوصول للمباراة النهائية لكأس العالم. وقبل ذلك التاريخ بثماني سنوات كان زيدان قد قاد منتخب بلاده للحصول على كأس العالم لأول مرة في تاريخه، لكن بعد اعتزاله خرجت فرنسا من دور المجموعات لكأس العالم عام 2010. وبالنسبة لإنييستا، يعتقد البعض أنه قد اعتزل في وقت مبكر للغاية وكان بإمكانه الاستمرار لسنوات أخرى، في حين يرى آخرون أنه لم يعد قادرا على تقديم المزيد، لكن الشيء الذي لا يختلف عليه أي شخص هو أن «الرسام الإسباني» قد أمتع عشاق الساحرة المستديرة في كل أنحاء المعمورة بفضل مهاراته الفذة ولمحاته الفنية المبهرة. ولا يتمنى أن شخص أن ينهي إنييستا مسيرته في كأس العالم مثل زيدان، الذي حصل على بطاقة حمراء بعد «النطحة» الشهيرة للمدافع الإيطالي ماتيرازي.
يقول إنييستا: «آمل أن لا يحدث ذلك، لكنّ هناك تشابها بين موقفي وموقف زيدان، من حيث إن هذه هي كأس العالم الأخيرة بالنسبة لي، كما كان كأس العالم 2006 هي الأخيرة بالنسبة له. رحيلي عن برشلونة لا يعني أنني لست مستعدا أو أنني غير قادر على مواجهة هذا التحدي. عندما تتخذ قراراً، فأنت تفكر في كأس العالم، ثم ينتهي الأمر بعد ذلك ويصبح كل شيء مختلفا ويتغير كل شيء، وأنا أعرف هذا جيدا. لكني أريد أن أفوز بكأس العالم».
ويعيد هذا الحديث إلى الأذهان قيادة إنييستا لمنتخب بلاده للفوز بكأس العالم في جنوب أفريقيا عام 2010 بعدما أحرز أغلى هدف في تاريخ الكرة الإسبانية. في الحقيقة، لا يقتصر الأمر على الهدف الذي أحرزه إنييستا، لكن الأمر أكبر من ذلك بكثير، ويمكن لأي شخص أن يشاهد المباراة النهائية لكأس العالم 2010 مرة أخرى ويشاهد الوقت الإضافي لكي يعرف أن إنييستا كان يقدم أداء أفضل من الجميع وكان يرسم لوحات فنية رائعة تقترب من الكمال.
يقول إنييستا: «هذا هو ما شعرت به أنا أيضا. لا أعرف ما إذا كان من الممكن أن أقول إنني شعرت بأنني أفضل من الجميع، لكني شعرت بالقوة تأتيني من كل مكان. ونفس الأمر ينطبق على المباراة النهائية لكأس ملك إسبانيا، لأنني كنت أعرف أنها البطولة الأخيرة لي مع برشلونة، وخضنا هذه المباراة بعد خروجنا من دوري أبطال أوروبا أمام روما الإيطالي، ولذا فقد كانت تمثل كل شيء بالنسبة لي. وفي جنوب أفريقيا، شعرت بذلك وأعتقد أن هذا الشعور قد انتقل إلى زملائي بالفريق أيضا. شعرت بأنني أقدم لمسات رائعة وأنه يمكنني المرور من أي لاعب بالفريق المنافس، وكأنني ألعب في مستوى آخر».
وتوج إنييستا أداءه الاستثنائي في هذه المباراة بتسجيل هدف الفوز. وأمام شاشات التلفاز كانت تجلس جيسيكا، زوجة لاعب نادي إسبانيول السابق دانيال خاركي، الذي توفي أثر إصابته بأزمة قلبية قبل إقامة كأس العالم 2010 بعام واحد لم تكن جيسيكا قد شاهدت أي مباراة منذ ذلك الحين، لكنها في تلك الليلة شاهدت إنييستا وهو يحرز هدف الفوز ويخلع قميصه ليظهر إهداء إلى روح خاركي.
وخلال المسيرة الطويلة والحافلة لإنييستا فإن اللحظة الأبرز بكل تأكيد هي لحظة التتويج بكأس العالم في جنوب أفريقيا والأداء الاستثنائي الذي قدمه الرسام الإسباني في المباراة النهائية للمونديال. والشيء المؤكد هو أن الأمور لم تكن أبدا بالسهولة التي يتحدث بها إنييستا، والذي أشار ببلاغة إلى أنه قد وجد نفسه في «مكان مظلم» بعد تعرضه للإصابة وطلب الجهاز الطبي منه ألا يسدد أي كرة في المباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا عام 2009. وهو نفس الأمر الذي التزم به في كأس العالم بجنوب أفريقيا. يقول إنييستا: «نحن نسمع أشياء غير صحيحة في تحليل المباريات، وفي بعض الأحيان ينتهي بك الأمر إلى تصديق ما تقرأه بدلاً مما تشعر به. يمكن أن يؤثر ذلك عليك، وهو أمر غير صحي على الإطلاق».
وفي إسبانيا، هناك بُعد إضافي لكرة القدم وهو السياسة. وحتى إنييستا، الذي دائما ما يتسم بأنه حذر ومحايد ونادرا ما يتحدث في وسائل الإعلام، قد شعر بهذا الأمر، عندما دعا إلى إيجاد حل للأزمة الكاتالونية. يقول إنييستا إنه «موضوع حساس ووضع صعب. يقول الناس إنه يجب على اللاعبين إبداء رأيهم، لكن عندما تبدي رأيك بطريقة منطقية وعقلانية تماما فإنك تتعرض للانتقادات من الجميع، وهو ما يجعلك تتساءل: هل هذا جزائي لأنني أبديت رأيي؟» وعندما سئل عما إذا كان هذا الأمر يمثل مشكلة للمنتخب الإسباني، رد إنييستا قائلا: «في داخل الفريق، لا. كل شخص له وجهة نظره وله الحق تماما في التعبير عنها، وهناك مشاعر شخصية بالطبع، لكن هذا الموضوع هو أمر سياسي في المقام الأول ويجب حله من قبل السياسيين الذين يمثلون الناس. لم يمثل هذا الأمر مشكلة كبيرة داخل الفريق لأننا في النهاية فريق كرة قدم ونلعب من أجل تحقيق نفس الهدف داخل الملعب».
وعلى أرض الملعب، كان إنييستا دائما مختلفاً ولاعبا قادرا على تغيير مجرى المباريات في أي لحظة بفضل إبداعاته الرائعة. وتحدث إنييستا عن المدير الفني السابق لبرشلونة والحالي لمانشستر سيتي جوسيب غوارديولا الذي اتخذ «خطوة أخرى إلى الأمام في تطور كرة القدم»، مؤكدا على أنه «بعد مرور سنوات، ما زلنا نرى الفرق الأخرى تحاكي الأشياء التي بدأنا القيام بها». وعبر إنييستا عن سعادته بأن الجميع لا يتذكرونه بالفوز فقط، ولكن يتذكرونه أيضا بالطريقة التي كان يفوز بها. وفي بعض الأحيان، كانت الإشادة الأكبر تأتي من الفرق المنافسة، وخير دليل على ذلك الإشادة التي تلقاها إنييستا من المدير الفني الأسطوري لمانشستر يونايتد السير أليكس فيرغسون الذي وصفه بأنه «استثنائي جدا».
لكن السؤال الآن هو: ألم يندم إنييستا على أي شيء خلال مسيرته الحافلة في عالم كرة القدم؟ وماذا عن عدم اللعب في الدوري الإنجليزي الممتاز؟ يقول إنييستا: «أنا متأكد من أنني كنت سأستمتع باللعب في الدوري الإنجليزي الممتاز وكنت سأكتسب خبرات جيدة، لكنني كنت دائما على ما يرام في المكان الذي ألعب به، ولم أشعر مطلقا بأنني أرغب في الرحيل أو بأنني سأكون أفضل في أي مكان آخر. ولم أترك برشلونة إلا عندما انخفضت لياقتي البدنية. وإذا لم يكن الأمر كذلك لواصلت اللعب مع برشلونة». لقد كان إنييستا بمثابة منارة تشع النور للجميع وكان يتصرف بتلقائية وبشكل طبيعي. وفي اليوم الذي وصل فيه إلى برشلونة، قال أحد العاملين بأكاديمية «لا ماسيا» للناشئين بالنادي إنه «لا يشبه لاعبي كرة القدم»، وقد أصبح هذا الأمر جزءاً من شخصيته الجذابة.
يقول إنييستا: «حسناً، ربما يمكنني أن أكون مثالاً للاعبين الآخرين من حيث شكل جسدي ومكانتي ولياقتي البدنية، لكني لا أرى الأمر كذلك، فأنا لا أرى كرة القدم على أنها الرياضة التي يلعبها أشخاص يصل طولهم إلى 1.8 متر ووزنهم إلى 75 كيلوغراماً. لكني أرى أنها لعبة جماعية تتطلب التعاون من الجميع. وهناك الكثير من اللاعبين الجيدين من دون أن يكون لديهم أجساد مثالية. وأنا لم أشعر بالخوف قط من اللعب أمام أي خصم، وكنت دائما ما أستمتع باللعب أمام من هم أكبر مني سنا وأضخم حجما. وعندما كنت صغيرا لم أكن ألعب مع أطفال في سني، بل كنت ألعب مع من هم أكبر مني سنا، وهو ما ساعدني على أن أكون أكثر قوة وأن أطور من قدراتي من أجل التغلب عليهم».
وقد فاز إنييستا بـ35 بطولة خلال مسيرته في عالم كرة القدم، ويرغب الكثيرون في أن تفوز إسبانيا بكأس العالم حتى تكون هذه هي البطولة رقم 36 لإنييستا والتي ستكون خير ختام وتتويج لمسيرته الرائعة، لكنه يعرف جيدا أنه لن يذهب إلى روسيا من أجل الاستمتاع وأنه سيشارك في المعترك الكروي الأقوى في عالم كرة القدم والذي يضم أفضل المنتخبات وأبرز اللاعبين. يقول إنييستا: «قد يقول البعض إنه سيكون من الجيد أن تفوز إسبانيا بكأس العالم، لكن البعض الآخر يتمنى أن تفوز بها الأرجنتين من أجل ميسي، وهناك آخرون يتمنون فوز البرتغال من أجل كريستيانو رونالدو، لأن هذه البطولة قد تكون الأخيرة بالنسبة لهما أيضا، ولذلك فإنها بطولة استثنائية بالنسبة لنا. لقد كانت حقبة مدهشة حقا ولا أعرف ما إذا كنا سنرى شيئا كهذا مرة أخرى أم لا. ويجب أن أشير إلى أن كل شيء وكل شخص من حولي قد ساعدني على أن أكون أفضل. يحزم كل منا أمتعته ويروي حكاياته وينافس على البطولات، لكن الاحترام هو الشيء الذي يدوم في نهاية المطاف».
ويضيف: «لقد كان كأس العالم 2014 بمثابة درس قاس بالنسبة لنا تعلمنا منه أنه إذا لم تكن مستعدا بنسبة 100 في المائة فإنك قد تتعرض للخسارة أمام أي فريق. لكننا في مستوى جيد هذه المرة. ستكون المنافسة صعبة، لكننا نمتلك فريقا رائعا يمكنه القتال من أجل تحقيق نتائج جيدة. لقد بدأت أنظر إلى الفرق المنافسة، مثل البرتغال على سبيل المثال. لقد دخلت إسبانيا والبرتغال بطولة كأس الأمم الأوروبية بفرنسا ولديهما نفس الشعور لأنهما كانتا غير مرشحتين بقوة للحصول على اللقب، لكن البرتغال فازت بالبطولة في نهاية المطاف. الجميع يستعد بقوة الآن من أجل الظهور بأفضل شكل ممكن في المونديال».
وقال: «أتمنى أن أواصل تقديم المزيد في عالم كرة القدم، فأنا أشعر بسعادة أكبر عندما ألعب كرة القدم. سأعيش حياة أخرى مختلفة تماماً وسألعب بطريقة مختلفة في سياق مختلف، لكنها ستظل مسؤولية كبيرة وأتمنى أن أستمتع بها. وبعد الاعتزال، سأحاول أن أعمل كمدير فني أو في منصب آخر في كرة القدم، فأنا أريد دائما أن أكون قريبا من الملعب. لا أعرف إلى متى سأستمر في الملاعب، فقد صرحت من قبل بأنني أريد أن ألعب حتى أصل إلى الأربعين من عمري، لكني لا أعرف ما إذا كنت قادرا على القيام بذلك أم لا».
ويقول إنييستا: «كرة القدم هي كل حياتي، وقد بدأت اللعب منذ أن كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري، وعشقت تلك اللعبة منذ بدأت في ركل الكرة في القرية مع والدي. لقد كانت كرة القدم هي المحرك الأساسي لحياتي ولجميع الأشخاص من حولي، وأصبحت أنا المركز الذي تدور حوله كل الأشياء الأخرى. لقد حظيت بتجربة مدهشة كانت أشبه بالقصص الخيالية في حقيقة الأمر، وبعد ذلك سيبدأ شيء جديد وأنا واثق من أنه سيكون لطيفا أيضا. لقد كانت كرة القدم هي كل حياتي، وآمل أن تكون كذلك في المستقبل».