«مسرحية» الاستخبارات الأوكرانية تثير اتهامات ضد روسيا باستهداف الصحافيين

فجّرت مسرحية اغتيال الصحافي الروسي المعارض، أركادي بابتشينكو، في أوكرانيا جدلاً واسعاً ونقاشات حول البعد الأخلاقي للحبكة التي أدارتها الأجهزة الخاصة الأوكرانية بهدف إحباط مخطّط حقيقي لاغتيال الصحافي وفقاً لتأكيداتها. وبين الانتقاد الروسي لـ«القصة الغريبة» بحسب وصف الكرملين، وذهول المؤسسات الدولية المعنية بنشاط الصحافيين لاستخدام آليات «الخداع وتقديم معلومات مزيفة» مهما كانت الدوافع، وفقاً لتعليق «مراسلون بلا حدود».
وسيطر ارتياح عام على وسائل التواصل الاجتماعي في روسيا وأوكرانيا أمس، بعد ظهور بابتشينكو حياً يرزق في قاعة المؤتمر الصحافي الذي نظمته الأجهزة الأوكرانية. وكان الرجل الذي قاتل في الشيشان، ثم عمل مراسلاً حربياً لمؤسسات حكومية قبل أن ينشق ويوجه انتقادات قاسية إلى سياسات الكرملين في أوكرانيا وسوريا، قد تحول خلال العام الأخير بعد انتقاله للعيش في كييف خوفاً من ملاحقة الأجهزة الروسية إلى واحد من أبرز مصادر المعلومات للمتابعين على الشبكة العنكبوتية للأحداث الدائرة في شرق أوكرانيا وفي القرم.
كما أصبح «نجم» وسائل الإعلام المعارضة، وخصوصاً صحيفة «نوفايا غازيتا» وإذاعة «صدى موسكو» اللتين تنتقدان بقسوة سياسات الكرملين الداخلية والخارجية.
وكانت وزارة الداخلية الأوكرانية أعلنت، مساء الثلاثاء مقتل الصحافي الروسي أركادي بابتشينكو برصاص مجهول داخل شقته في العاصمة الأوكرانية كييف. واتهم رئيس الوزراء الأوكراني فلاديمير غرويسمان على الفور موسكو بأنها متورطة في هذا الاغتيال. ثم ظهر أركادي بابتشينكو في مؤتمر صحافي لهيئة الأمن الأوكرانية الأربعاء. وقال رئيس الهيئة، فاسيلي غريتساك، إن الأنباء عن «اغتيال» بابتشينكو كانت جزءاً من عملية خاصة هدفت لعرقلة محاولة اغتياله، متهماً من جديد المخابرات الروسية بتورطها في محاولة اغتيال هذا الصحافي المقيم في العاصمة الأوكرانية عن طريق مواطن أوكراني، مشيراً إلى أنه قد احتجز ويقدم إفادته عن الواقعة. واتضح لاحقاً، وفقاً للاستخبارات الأوكرانية، أن الأجهزة الروسية دفعت للرجل 40 ألف دولار لترتيب عملية الاغتيال عبر استئجار قاتل محترف. وتعهدت كييف أمس بنشر تفاصيل إضافية مع استكمال التحقيقات.
تساءل الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، بعد انتشار تلك التفاصيل: كم تبرر الغاية الوسائل في هذه القصة؟ سؤال ينتقد كييف لأنها في سبيل اتهام موسكو، لجأت إلى وسائل التضليل والخداع، وهو تردد كثيرا في تغطيات وسائل الإعلام الغربية حول الحدث، لكنه عكس أيضاً استياء روسيا الواسع لأن القصة إذا ثبتت صحتها واتضح أن المخابرات الروسية كانت بالفعل وراء التحضير لعملية اغتيال المعارض، ستكون موسكو في موقف لا تحسد عليه. إذ لم تطو بعد قضية محاولة اغتيال العميل الروسي المنشق سيرغي سكريبال، وابنته يوليا في بريطانيا. ولم تغلق أجهزة التحقيق البريطانية ملفّ الموت الغامض لعشرات الأشخاص، بينهم رجال أعمال وناشطون ومدونون وصحافيون وعملاء أجهزة استخبارات سابقون، يجمعهم أنهم ماتوا جميعاً في ظروف غامضة، وأن أصابع الاتهام وجهت دائماً إلى الأجهزة الروسية.
وفي يوليو (تموز) 2016، قتل الصحافي الروسي - البيلاروسي بافيل شيريميت في انفجار قنبلة وضعت تحت سيارته في كييف، في قضية لا تزال غامضة. وتم توجيه الاتهام أيضاً إلى المخابرات الروسية.
وسارعت وسائل إعلام روسية معارضة إلى استخدام الحدث لفتح ملفات استهداف الصحافيين في روسيا. وبعيداً عن عمليات الاغتيال المباشر التي تعرض لها صحافيون معارضون؛ ما أثار ضجة دولية في أكثر من حادثة مثل اغتيال الصحافية الاستقصائية في جريدة «نوفاي غازيتا» والناشطة في مجال حقوق الإنسان آنا بوليتكوفسكايا في عام 2006، ثم مقتل عدد من زملائها الذين كانوا يشاطرونها الآراء في معارضة الحرب في الشيشان في ظروف مختلفة خلال السنوات اللاحقة، فإن التركيز انصب على مقتل كثيرين لم ترتبط أسماؤهم بملفات سياسية، بل تخصصوا في فتح ملفات فساد أو دخلوا في سجالات محرمة مع السلطات المدنية في مناطق عملهم.
وفي العام الماضي وحده، لقي 3 صحافيين روس مصرعهم في ظروف غامضة ولم يتم التوصل إلى الجناة. وعثر على جثة الصحافي في مجلة محلية في مقاطعة بيروبيجان (أقصى شرق)، أندريه روسكوف، ملقاة قرب نهر في سبتمبر (أيلول) الماضي، وتبين أن موته حصل بسبب الغرق. ورغم أن الطب الشرعي أظهر أنه تعرض لضرب مبرح قبل إغراقه، فإن التحقيق لم يخرج بنتائج تذكر.
وفي مايو (أيار) الماضي، لقي رئيس تحرير مجلة «تون إم» التي تصدر في محافظة كراسنويارسك (سيبيريا) ديمتري بوبكوف مصرعه بعدما أطلق مجهولون النار عليه في منزله. وكان بوبكوف متخصصاً في إثارة ملفات الفساد وملاحقتها. ورأى رفاقه أن نشاطه المهني تسبب في الانتقام منه، علماً بأن شعار مجلته الدورية كان هو: «نكشف ما يخفيه الآخرون».
وقبل تلك الحادثة بشهر واحد، لقي نيكولاي اندروشينكو الذي عمل لصحيفة «نوفاي بطرسبورغ» (بطرسبورغ الجديدة) مصرعه بعد تعرضه لاعتداء من جانب مجهولين. وفشلت جهود الطواقم الطبية في إنقاذه رغم إخضاعه لعمليات جراحية عدة، مات بعدها، من دون أن يكشف التحقيق تفاصيل عن الحادث أو عن الجناة.
وقد يكون الحدث الأقرب الذي أثار ضجة كبرى، موت الصحافي الروسي مكسيم بورودين قبل نحو شهرين في حادثة «انتحار» غامضة. وأفاد التقرير الطبي بأن بورودين تعرض لكسور عدة بعد سقوطه من الطابق الخامس في البناية التي كان يسكنها، لكنه لم يتمكن من تحديد ما إذا كان الحادث انتحاراً أم ناجماً عن اعتداء؛ إذ لم تظهر على جسد بورودين علامات تدل على تعرضه للعنف قبل سقوطه من شرفة منزله.
وكان يمكن للحادث أن يمر سريعاً ولا يلفت الأنظار، لولا أن اسم «المنتحر» كان برز بقوة في قضية أثارت جدالات لم تهدأ. فهو كان أول من كشف تفاصيل كاملة عن حادثة تعرض وحدات من المرتزقة الروس الذين كانوا يقاتلون في سوريا في إطار ما عرف باسم «جيش فاغنر» (نسبة إلى مؤسسه)، إلى قصف أميركي مركز يوم السابع في فبراير (شباط) الماضي على قافلة ضمن ثلاث وحدات من هذا الجيش، كانت تقترب من موقع نفطي قرب دير الزور؛ ما أسفر عن مقتل 217 منهم وفقاً لتأكيدات صدرت لاحقا.
ومكسيم بورودين الذي كان يعمل لصحيفة «نوفي دين» (اليوم الجديد)، والذي عرف بتحقيقاته الاستقصائية جمع تفاصيل وافية، بينها تسجيلات صوتية وصور؛ ما أثار ضده عاصفة من الانتقادات، وعرضه لتهديدات كثيرة.
ولم يقف بورودين عند نشر التفاصيل، بل لاحق القضية عبر اتصالات أجراها مع عائلات بعض القتلى في الحادث، الذي رفضت موسكو في البداية الاعتراف بأنه وقع أصلاً. ثم تحدثت في وقت لاحق عن سقوط «5 قتلى فقط»، قبل أن تقر الخارجية بعدما نشرت الصحافة الروسية أسماء عشرات من القتلى وأجرت مقابلات مع عائلاتهم بأن الحادث «وقع وأسفر عن مقتل وجرح عشرات».
وأثار الموت الغامض لبورودين شكوكاً كثيرة لدى الأوساط القريبة منه ولدى منظمة مراسلون بلا حدود، التي طالبت بتحقيق جاد وشفاف. بينما قالت رئيسة تحرير «نوفي دين»، بالينا رومانتسيفا، إن «مكسيم كان نشطاً ومحباً للحياة، ولا دوافع لديه كي ينتحر». وأعربت عن شكوك بسير التحقيقات، ونبهت إلى أن «موته ليس مجرد حادث، ثمة من ساعد في إظهاره وكأنه انتحار».
لكن لجنة التحقيقات الروسية التي قالت إنها تجري «فحصاً شاملاً للحادث»، سارعت إلى تأكيد أن «لا مؤشرات إلى شبهة جنائية»، ورأت أن الفرضية الأساسية هي الانتحار، مستبعدة أن يتم فتح تحقيق جنائي في القضية. أثار هذا الموقف استياء أوساط، خصوصاً في المعارضة الروسية التي فتحت الملفات القديمة، وذكرت أن بورودين الذي تبنى موقفاً مناهضاً للتدخل الروسي في سوريا منذ بدايته، تعرض إلى وابل من التهديدات في السابق بسبب مواقفه، وأنه نجا بأعجوبة من موت محقق في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بعدما اعتدى مجهولون عليه مستخدمين قضباناً حديدية، بعد مرور وقت قصير على إجرائه مقابلة تلفزيونية مع محطة «دوجد» المعارضة تحدث فيها عن الوضع في سوريا.