يوسف القويري... كاتب «دون مفكرته قبل أن يولد»

ودع المشهد الثقافي الليبي الأيام الماضية أحد أهم رموزه، ومن أبرز كتاب المقالة الأدبية، الأديب يوسف القويري عن عمر يناهز الثمانين عاما. ولفظ الكاتب أنفاسه الأخيرة والقلم بين يديه، فقد كانت الكتابة والقويري وجهين لعملة واحدة... الكتابة ولا شيء غيرها.
شكل أسلوب القويري الكتابي نقطة تحول مفصلية في تاريخ الصحافة الأدبية بليبيا، من حيث الفكرة والجرأة في الطرح، وقوة اللغة، وذلك منذ عام 1957 سنة قدومه من مصر التي ولد بها عام 1938، ليبدأ رحلته الأدبية من سبها بالجنوب الليبي عبر صحيفة فزان، ثم في صحف (الحقيقة، المساء، الميدان، طرابلس الغرب، الرواد... إلخ).
«كان يقيس كلماته وتصرفاته وحركاته بالمسطرة والفرجار»، كما يصفه الروائي إبراهيم الكوني، وتجلى ذلك بشكل خاص في عمله الشهير (من مفكرة رجل لم يولد بعد) الصادر سنة 1971. وهو سلسلة مقالات نثرية أسبوعية نشرها الكاتب في جريدة الميدان من سنة 1966 إلى سنة 1968، كأول تجربة ليبية في مجال كتابات الخيال العلمي.
بدأ القويري الكتابة في وقت مبكر من عمره، وقرأ في موازاة ذلك لكثير من الأدباء والكتاب، كسلامة موسى، والعقاد، وطه حسين، والزيات، وهمنغواي، وموريس لبلان، وجوته، وكافكا... إلخ وهو لا يقرأ فقط بل يتمنى كما يذكر في كتابه «قطرات من حبر» أن يتلاحم مع أبطال كتاباته. يقول عن «أبناء الطبيعة»، الذي يمثل أولى إطلالاته المبكرة على عالم الرواية: «تمنيت أن أكون بداخله أن أكون حقيقة مع أشخاصه، أحادثهم، وأواجه ظروفهم، وأخوض مغامراته الممتعة المغرقة في الخيال». وبتلك المخيلة لم نستغرب تمنياته في أن يقابل «آرسين لوبين» وكيف كانت تستهويه مغامراته بجنون وهو يقودنا إلى السؤال في كيفية المواءمة بين الواقع والعالم الخيالي.
يجلس القويري الساعات الطوال لكي يكتب، وليفعل ذلك لا بد له من إمضاء جزء من وقته بين قصاصات ورق صغيرة، هي ملاحظات دونها من نتاج قراءاته المتواصلة. يخرجها من جيب الجاكيت ويضعها على منضدة صالة التحرير، ويظل يتفحصها مراراً، كأنما يفكر في فك لغز معادلة رياضية، فالبناء اللغوي والأفكار هو شبيه مزيج من الرموز والأرقام والمقارنة المستمرة بين المقدمات والنتائج، ولأنه كذلك فالمتأمل لكتاباته يعثر على صورة لملامح واضحة من إحالات معجمية وفلسفية تعكس حصيلة تكوينه المعرفي. ففي كتاباته يختلط التاريخ بالفلسفة، والمقارنة العلمية بروح النص الأدبي، والجمل لديه مكثفة بعيداً عن الاستعراض اللفظي. نلمس ذلك عل امتداد مسيرته إلا بداعية في فن المقال، وكذا مؤلفاته «خيوط رفيعة» 1972 و«على مرمى البصر 1976» و«الكلمات التي تقاتل» 1969 و«قطرات من حبر» 1975 الذي يقول في مقدمته بـ«أن نقاء التعبير مطلب هارب كالسراب» وكأنه يعتذر للقارئ مسبقاً عن كل ما قد يجده من أخطاء أو هفوات في أسلوب السرد أو التعبير.
في أعمال القويري تستشف نوعا من الوصف، يقصي الوقع الثقيل للكلمة بإيقاع يوائم بين السياق والمعنى، وسرد يجمع بين فنية البناء الحكائي والتجربة، يجعلك كما لو كنت تعايش الحدث ذاته، فاللحظة لديه أساسية في بنية الموضوع، يجعل منها نقاط توقف أو انطلاقة داخل الحدث أو خارجه، وينتقل بالمشهد كاسراً رتابة الحوار بتفاصيله الواصفة بعيدا عن الاستطراد.
وإذا ما حاولنا تصنيف أو مقاربة الموضوعات التي يدور حولها نقده، نجدها تنهض على ثلاثة مستويات، أولها النقد الاجتماعي بمنطلقات تاريخية وعلمية، ثم البعد الثقافي برؤية فلسفية، وأخيراً ما يندرج تحت إطار شرق وغرب من منظور فكري وفق ما تمت الإشارة إليه في تناوله لأساطير وديانات الحضارات القديمة.