الثقافة ورأس المال الرث

ليس غريباً أن يتوقف أقدم موقع شعري عربي وهو الموقع الإلكتروني «جهة الشعر»، لـ«عدم توفر الدعم المالي»، حسب إعلان مؤسسه الشاعر البحريني قاسم حداد. بل الغريب، والشاذ أيضاً، أن يستمر هذا الموقع الرائد والرصين لمدة 22 عاماً، منذ 1996 حتى قبل يومين. والذي نعرفه، أن الموقع استمر طوال هذه السنوات بفضل دعم كتاب وشعراء، هم أساساً بحاجة للدعم. كانت فكرة شخصية صغيرة من قاسم حداد، منذ بداية انتشار الإنترنت، ومع انحسار المجلات الأدبية، هذا إن لم نتحدث عن غياب أي مجلة متخصصة بالشعر، وسرعان ما كبرت الفكرة وتحولت، بتعبير حداد، إلى «مشروع جماعي تسهم فيه كائنات لا تحصى من شتى أصقاع العالم». تحولت اللغة الواحدة إلى سبع لغات. وكان وراء كل ذلك ميليشيا فدائية من الكتاب والشعراء والمترجمين والمستشارين، الذين حولوا الموقع إلى مرجعية شعرية حقيقية، لتوفره على أرشيف غني صار مصدراً مهماً للمعلومات عن التجارب الشعرية العربية، خاصة للدارسين والكتاب الأجانب المهتمين بالشعر العربي، واهتمامه بنشر الملفات المتخصصة والشهادات والتجارب الشعرية، والحوارات، إضافة إلى نشر مجموعات شعرية كاملة، وقراءات نقدية لكتب جديدة، بحيث تحول الموقع حقاً إلى ورشة عمل شعرية، عربياً وأجنبياً.
غياب الدعم لهذا الموقع الثقافي، وعشرات المشاريع الثقافية المجهضة، يدل على حقيقة أكبر وأوجع، متعلقة بعلاقة رأس المال العربي بالثقافة، أو بكلمة صريحة، يكشف رثاثة رأس المال هذا، الذي لا يستطيع أن يستوعب، بسبب تخلفه، أبعاد التنمية الثقافية، وانعكاسها الإيجابي الحتمي على التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وهو الدرس الذي استوعبته البرجوازية الأوروبية قبل قرون، لأنها، على عكس برجوازيتنا الطفيلية، قد نمت بشكل طبيعي من بطن المجتمع نفسه، ويمكن القول إنها كانت الرافعة الاجتماعية والاقتصادية لعصر التنوير في القرن الثامن عشر. ومع صعود هذه الطبقة، ازدهرت في المجتمعات الأوروبية ظاهرة الأغنياء الراعين للكتاب، ثم تطور الأمر، مع تطور المجتمع، إلى مؤسسات وشركات، قدمت دعمها غير المشروط لمعاهد وجمعيات ثقافية ومراكز أبحاث، كما أسست جوائز أدبية كبرى، ومنها جائزة بوكر، التي أطلقتها شركة أغذية على اسمها، ثم تولت شركة أخرى «مان غروب» رعايتها فأصبح اسمها «مان بوكر»، وكذلك جائزة «ويتبريد»، التي تأسست عام 1971. لكن تغير اسمها إلى «كوستا»، على اسم شركة القهوة الشهيرة، التي أصبحت تدعمها منذ 2006.
إنه رأس مال ذكي يعرف أنه لا يزدهر على المدى البعيد إلا إذا ازدهر المجتمع كله: اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافياً، وأن دورته لا يمكن أن تكتمل إلا بهذا الازدهار.
إنه رأس المال العقارات، الذي راكمته البرجوازية العربية الرثة، فلا يستطيع أن يرى أبعد من مستوى الحجارة. ومن السذاجة أن نتوقع شيئا من مقاولين صعدوا من القاع، واجتاحوا آخر ما تبقى من قلاع البرجوازية المتوسطة المتنورة التي عرفناها في يوم من الأيام، والتي نمت طبيعياً من بطن المجتمع، ونقلت لنا بعضا من تنوير، قبل زمن انقلابات العسكر، واجتياح الريفيين، الذين ارتدوا النجوم اللامعة على أكتافهم، واجتاحوا شوارعنا في غفلة منا، ليبدأ معهم زمن قد ينتمي لكل شيء، ما عدا للمستقبل.