غواص... من الأعماق

أتذكرها وكأنها حدثت أمس، وليس قبل 15 سنة أو أكثر. بعد تعييني في جريدة الاتحاد الإماراتية، بعامين أو ثلاثة تقريباً، طلب مديرها منّي كتابة مقال المحرر. كنت لا أزال حينها صحافيا ميدانيا في قسم المحليات. وكنت أحب العمل الميداني وشق التحقيقات والأخبار، لذا تردّدت في البداية لطلبه، لكنّه أصر عليه.
واجهت الطلب باستعداد ورأيته كتحدٍ. بدأت كتابة مقالات بيد أنّها لم تكن تكتب باسمي الحقيقي، بل بآخر مستعار «غواص». وكان اسم المقال «من الأعماق». ما زلت أذكر إلى اليوم، كيف جلست أكتب المقال الأول، لساعات. التجربة كانت صعبة جداً أن تكتب مقال رأي في سنّ صغيرة بجريدة يومية مقروءة.
سلمته للمحرر المركزي الذي يراجع الصفحة ليتأكد مما كتبت. في اليوم الثاني نُشر المقال في الصحيفة، وفرحت بعدها بعمودي اليومي. وفي اليوم الثاني استغرقني المقال ساعات أيضا لبلورة الفكرة، ليسألني المحرّر عنه بضعة أسئلة. وفي اليوم الثالث أيضاً كتبت آخر وسلمته له، فقال لي إنّه لا يصلح للنشر، وشق الورقة ورماها في سلة المهملات. صدمت، فتعب أربع ساعات زال سدى. فكّرت ملياً، لأرى أنّ ما حصل كان تحدياً لي وبات جلّ همّي أن أُثبت للمحرّر قدرتي على تعديل المقال نفسه، ليعود صالحا للنشر. عاودت كتابته من جديد، وسلمته له ليعاود نشره، فعاد ليرميه من جديد في سلة النفايات. وأعدت كتابته. واستمر الشد والجذب أسبوعا، عزّز ذلك روح التحدي داخلي.
ما لم أعرفه خلالها أنه عند كتابتي للمقال الأول، لم أعاود قراءته بعد النشر، وبالتالي لم أر ما أجراه المحرّر من تعديلات كاملة للنص. وأنا كنت أعتقد أنّني كتبت مقالا ممتازا.
التجربة علّمتني أنّه على الإنسان أن يكون على قدر المسؤولية. وفعلاً، أنا اليوم أشكر هذا المحرر، لأنّه علّمني درسا مهما في حياتي المهنية، وهو أنّ الكتابة صعبة ولا بد على المرء أن يتعب على قلمه.
في عالم الصحافة لا بدّ لمن يرغب خوضه أن يتعلّم فنون المهنة التي تحتاج إلى الكثير من الصبر والمعرفة والاطلاع. أمّا الدرس الآخر الذي تعلمته من هذا الرجل في كتابة العمود اليومي، فإنّه علي أن أكون إنساناً قارئاً ومطّلعا، وعلى كل صحافي أن يشعر بحاجته للغذاء من خلال القراءة، لينجح بالتالي بانتقاء كلمة خاصة به لها احترامها ووزنها يقدّمها للقراء. على الشباب اليوم الاهتمام بالقراءة وتوسيع الآفاق والاطلاع قبل البدء بالكتابة.
مقولة شائعة، «الصحافة هي مهنة المتاعب»، فعلاً هذا ما هي عليه بكل ما تعنيه الكلمة، وبالتالي يجب أن نستعدّ لهذه الكلمة بكل ما قد تحمله من متاعب وتحديات يومية، الأمر الذي يتطلب دائماً، من الصحافي، أن يتسلّح بالمصداقية والموضوعية والدقة، ونصيحة للصحافيين المبتدئين، تعلّموا من تجارب من سبقوكم.
قراران مهمّان جداً بالنسبة لي، اتخذتهما، عندما بدأت الكتابة الصحافية. الأول، بتّ أتأخر في قراءة المقالات لأكوّن خطا خاصاً بكتابة المقالة، وأحاول أّلّا أتأثر بكبار الكتّاب، خشية أن أصبح نسخة عنهم. والقرار الثاني، تركي مهنة التصوير الفوتوغرافي التي كنت أحترفها، لكي يعرفني الناس بصفتي كاتبا، فوضعت الكاميرا جانبا لتصبح هواية شخصية فقط.
التحقت بجريدة الاتحاد عام 1994. وبعد مضي السنوات، أسأل نفسي، هل اخترت المهنة الصحيحة؟ فتجيب دون تردّد: «ليس هنالك مهنة تناسبك أكثر من أن تكون شخصاً في بلاط صاحبة الجلالة». في هذه الحياة نؤدي أدوارا كثيرة، والأمر بات مهما في ظل هذا التطور التكنولوجي والإعلام الرقمي، ومن المهم أن يكون دورنا فاعلا ومؤثرا في مجتمعاتنا ودولنا العربية. ينبع اختيار طريق الصحافة من الحب الكبير لهذه المهنة، وهي ليست وظيفة بل مهنة وأوّل شروطها أن من أراد اختيارها من الشباب فلا بدّ أن يكون عاشقا لها.
* كاتب وصحافي إماراتي
رئيس تحرير جريدة «الاتحاد»