معركة الغوطة مقدمة لرسم مناطق النفوذ في سوريا

منذ إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قبل أيام، أنه لا يستبعد تكرار سيناريو حلب في الغوطة الشرقية، اشتعلت الأوضاع في المنطقة بشكل متصاعد. ورغم أن الاستعدادات لمواجهات واسعة في الغوطة بدأت منذ نهاية العام الماضي، لكن عبارة الوزير الروسي بدت كأنها منحت الغطاء اللازم لدخول مرحلة الحسم النهائي لها. بعد ذلك ترددت العبارة أكثر مرة من جانب مسؤولين في دمشق، وذهب مندوب سوريا لدى الأمم المتحدة السفير بشار الجعفري أبعد قليلاً عندما قال إن «سيناريو حلب» سيتكرر بعد الغوطة في إدلب.
ورغم أن موسكو سعت إلى النأي بنفسها عن العمليات العسكرية المباشرة، ونتائجها الكارثية على الصعيد الإنساني، بدا واضحاً أن تأكيد الكرملين أكثر من مرة عدم ضلوع القوات الروسية في قصف الغوطة يهدف فقط إلى مواجهة الاتهامات الغربية، ولا يحمل إدانة للعملية العسكرية نفسها.
على العكس من ذلك، وفّرت موسكو عبر مناقشات مجلس الأمن وفي تعليقات وزارتَي الخارجية والدفاع على تطورات الوضع في الغوطة المبررات اللازمة للنظام من أجل المضي في عمليته العسكرية حتى النهاية. بما في ذلك عبر تبرير مندوب روسيا الدائم فاسيلي نيبينزيا قصف المستشفيات والمدارس والمنشآت الحيوية مثل الأفران، من خلال تأكيد أن «الإرهابيين يتحصنون فيها». لكن السؤال برز عن أسباب التشدد الروسي في مجلس الأمن، والمماطلة المتعمدة في حسم موضوع اتخاذ القرار بعدما كانت موسكو دعت بنفسها إلى عقد الجلسة لمناقشة ملف الغوطة.
يؤكد خبراء روس على علاقة بالمستويين العسكري والدبلوماسي أن موضوع «الحسم في الغوطة كان ضرورة مؤجلة»، وأن التوقعات كانت تتباين فقط حول التوقيت الملائم لإطلاق الحملة الواسعة التي تبدأ من الغوطة وتهدف إلى «تطهير الجيوب الإرهابية» في محيط العاصمة، قبل الانتقال إلى مناطق أخرى، لكن بعضهم يربط تسريع العملية بعدد من التطورات المرتبطة بتعثر الملف السياسي وتراكم ظروف عدة ميدانياً وسياسياً بينها تدهور الوضع الميداني في أكثر من جبهة على الخريطة السورية.
وأوضحت مصادر تحدثت إليها «الشرق الأوسط» أن ثمة مسارين حددا الموقف الروسي حيال الغوطة وساهما في بلورة موقف متشدد في مجلس الأمن وخارجه: الأول، مرتبط بالإخفاقات التي واجهت موسكو في إدارة العملية السياسية. والآخر، له علاقة بتنشيط التحركات الأميركية في سوريا أخيراً.
في المسار الأول، انطلق الموقف الروسي من حاجة النظام إلى إحكام سيطرته على الجيوب المحيطة بدمشق خصوصاً الغوطة التي تشكل نقطة انطلاق لهجمات مدفعية على أحياء العاصمة القريبة. لكن هذا يعد المبرر المباشر للتصعيد الذي يهدف إلى تحقيق جملة من الإنجازات الميدانية والسياسية.
وموسكو، وفقاً للمصادر، وجدت صعوبات جدية في ترجمة «الإنجازات العسكرية» التي حققتها العام الماضي في سوريا، على طاولة التسوية السياسية، وقاد فشل جولة جنيف ثم الإخفاق في تحويل مؤتمر سوتشي إلى نقطة تحول في العملية السياسية، إلى تحول موسكو لممارسة مزيد من الضغط على فصائل المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري.
بالتزامن مع تعزيز مساحة نفوذ النظام الذي يُحكم حالياً السيطرة على أكثر بقليل من نصف الأراضي السورية، وتعتقد أوساط في المؤسسة العسكرية الروسية أنه قادر بمساعدة روسية ودعم ميداني من المجموعات الموالية لإيران على تحقيق تقدم واسع يضع نحو ثلثي الأراضي السورية تحت سيطرته. يتطلب هذا التحرك، السيطرة بدايةً على الغوطة، ثم استكمال «تطهير» بعض الجيوب القريبة من دمشق مثل اليرموك، حيث تنشط مجموعات لـ«داعش» و«النصرة» قبل الانتقال إلى معركة واسعة النطاق في إدلب ومحيطها.
يعتقد فريق من الخبراء قريب من المؤسسة العسكرية أن هذا التوجه اتخذ بعداً أكثر إلحاحاً مع تزايد النشاط الأميركي في سوريا أخيراً، ما يفتح على المسار الأوسع الذي تسعى موسكو من خلاله إلى مواجهة واسعة لإعادة رسم خرائط مناطق النفوذ في سوريا.
وثمة قناعة لدى أوساط روسية بأنه منذ بداية العام عكفت واشنطن على تعقيد تحركات موسكو، بدءاً بنفي النظرية الروسية حول «تحقيق الانتصار» و«القضاء على (داعش)»، ومروراً ببحث المعارضة السورية مقاطعة سوتشي، وصولاً إلى الإعلان الغامض عما وُصف باستراتيجية واشنطن الجديدة التي تتضمن إنشاء قوات حدودية، وهو أمر استفز إطلاق العملية العسكرية التركية في الشمال السوري.
وبالتوازي مع «التصعيد الميداني» الذي أطلقته واشنطن، جاءت الضربات العديدة التي تعرضت لها روسيا مثل استهداف قاعدة حميميم، ثم إسقاط الطائرة الروسية وصولاً إلى القصف الأميركي لقافلة المتعاقدين الروسي لتزيد القناعة لدى موسكو بأن المواجهة مع واشنطن دخلت مرحلة جديدة في سوريا.
اللافت أن المواجهة لم تتخذ شكلاً ميدانياً يهدف إلى توسيع مناطق النفوذ فحسب، بل تعدت ذلك إلى بدء محاولات لفرض واقع سياسي وجغرافي يمهد لتكريسه في أي تسوية سياسية مقبلة. وهذا ما كشف عنه حديث سياسي روسي بارز مع مسؤول زار موسكو أخيراً، حول «تبني واشنطن الكامل موقف إسرائيل حول شكل سوريا المقبلة». وأوضح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أبلغ الإدارة الأميركية أخيراً، أن موقف تل أبيب يقوم على ضرورة بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في موقعه مع تقسيم سوريا إلى دويلات يكون مسيطراً على الجزء الأكبر منها.
يفسر هذا تكرار الوزير لافروف خلال الفترة الأخيرة التحذير من أن واشنطن انقلبت على تعهدات سابقة بالمحافظة على وحدة الأراضي السورية. كما أنه يفسر في الوقت ذاته أهمية تسريع وتيرة العمل لفرض السيطرة على أوسع مناطق ممكنة على الرقعة السورية.
وبهذا المعنى أيضاً يمكن فهم المماطلة الروسية، والتشدد في ملف وقف العمليات العسكرية، والحرص على منح النظام وقتاً كافياً لإنهاء مهمته. ومهما كان شكل القرار الذي سيصدر عن مجلس الأمن، فإنه سيكون محمّلاً «بما يكفي من قنابل موقوتة»، وفقاً لتعبير مصدر دبلوماسي عربي في موسكو. بمعنى أن الحرص على استثناء «داعش» و«النصرة» و«فصائل أخرى» يوفر أرضية لتبرير الانتهاكات لاحقاً ومواصلة العملية العسكرية.
ورداً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» حول الخشية من أن تسفر التطورات عن انهيار اتفاق مناطق خفض التصعيد، قال مصدر إن «هذا الاتفاق انهار منذ بداية العام عملياً». لكنه شدد على أن ذلك لا يعني انهيار التنسيق بين الأطراف الثلاثة الضامنة وقف النار في سوريا، مؤكداً أهمية «الفصل بين الأمرين»، لأن التقاطعات والمصالح التي تجمع الثلاثي (روسيا وإيران وتركيا) أكبر وأوسع من نقاط الخلاف بينها.