نصف أحرار

قرابة الساعة الرابعة فجراً، قصدنا قرية في جبل الزاوية بسوريا بهدف تصوير قصة عن شُح الطحين خصوصاً في المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل المقاتلة المنضوية تحت المعارضة السورية. وجدنا مخبزا وحيداً سَلِم من نيران الطيران الحربي التابع لقوات الحكومة السورية، مكانه مخفي والتصوير شبه مستحيل، خوفا من كشف المخبز وقتل لقمة العيش! تبعنا ربطات الخبز إلى حيث توزّع وهناك تجمهر الناس تحت المطر الشّديد وكأنّهم في مظاهرة.
وسط عشرات الناس، رأيتها متشحة بثياب سوداء، تلبس حذاء ممزقاً يزيدها برداً في الشتاء القارس. كانت تتوسل، لكنّ موزع الخبز رفض إعطاءها حتى ربطة واحدة. رافقتها إلى منزلها لأعرف قصة تلك المرأة الحزينة، هناك الصدمة الأكبر حيث كان بانتظارها تسعة أحفاد، جميعهم أيتام، والمؤلم أنّهم لم يذوقوا طعم الخبز منذ أيّام. هذه السيدة دفنت ثلاثة من أبنائها تَرَكُوا وراءهم أطفالاً بعضهم رُضّع. أمام عدسات الكاميرا حضرت ربطات الخبز بسحر ساحر، شكرتنا السيدة، فالكاميرا تحرج تجار الحرب أحيانا. كم أودّ أن ألتقي تلك الجدة. تُرى هل لحقت بأبنائها الثلاثة إلى القبر أم عاندت الموت لتعيل أيتامها؟
هذه القصة وعشرات أخرى، نراها على وسائل الإعلام، تجعلني أخاف من تسطيح قصص الناس واختصارها لدقيقة تلفزيونية، أو لأحرف معدودة تناسب منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
يعيش العالم العربي حربا تلو الأخرى، منذ نكبة فلسطين، ومن يومها أصبح الشهداء والجرحى واللاجئون والأيتام والأرامل أرقاماً تعتلي عناوين وسائل الإعلام، وإن لم تكن أعدادهم مرتفعة فقتيل أو عشرة لا «يستأهلون» عنواناً أول. أصبحت دولنا خرائط ملونة نقسّمها ونخط عليها بالألوان لنشير من يسيطر على ماذا، ومن يقاتل من. ومع انتشار الإعلام الجديد ننحو إلى مزيد من تبسيط المعلومات لتناسب العصر الجديد فيما نحن بأمسّ الحاجة للتعمق أكثر بكل قصة وكل خبر.
الْيَوْمَ أكثر من ذي قبل، بات الصحافي في مواجهة كمّ هائل من المعلومات الكاذبة بعضها تبثها حكومات وجهات هدفها تضليل الرأي العام وتحريف الحقيقة. شركات دعائية عالمية ومحترفة تعمل بكفاءة عالية على تحريف حقائق فيما يحاول صحافيون مخضرمون محاربة تضليلهم.
قصص كثيرة أحلم بالعودة إليها لمقابلة أبطالها لعلهم يتجرأون على كلام أكثر حرية. أودّ أن أقابل عائلة تلك المرأة التي وجدتها، بعد ساعات من وقف إطلاق النار في حرب تموز، جثة منتفخة في مارون الراس جنوب لبنان، قتلتها أسلحة إسرائيل الجبارة. هل ماتت وحيدة؟ وماذا فعلت عائلتها؟ وأود العودة إلى أربيل في كردستان العراق حيث قابلت إيزيدية قتل «داعش» زوجها وهمست لي «اغتُصبت». كانت حاملاً، سالت لمن جنينها ولَم أحصل على جواب مقنع.
الْيَوْمَ وغداً نحتاج أن نعود إلى جذور القصة وعمقها والقِطب المخفية. لأنّ ثقافة الحقيقة لا تزال منقوصة في الإعلام العربي.. نبدو وكأننا نصف أحرار.
* إعلامية لبنانية
مديرة مكتب «العربية» في لندن