بناء الشخصية أساس تعليم المستقبل في الإمارات

تشهد العملية التعليمية تحديات واسعة مع المعطيات والمتغيرات التي يمر بها العالم في الوقت الحالي، وهو ما يدفع لإعادة تفسيرها لتحديد ما ستضيفه المدرسة إلى أخلاقيات الطلبة الذين ينشأون في العائلة، وهل ستكون المؤسسة التعليمية بديلاً عن المؤسسة الاجتماعية؟!
في الإمارات ثمة مفهوم يُعمَل على تعزيزه، وهو أن تعزيز التكامل بين العائلة والمجتمع والمؤسسة التعليمية وسوق العمل أحد أهم محاور إعادة مفهوم التعليم بما يتناسب مع المرحلة المقبلة، وهو ما تم نقاشه في منتدى «قدوة» الذي عُقِد في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بمدينة أبوظبي الإماراتية.
وقال محمد النعيمي مدير مكتب شؤون التعليم في ديوان ولي عهد أبوظبي: «كان أحد الأهداف الرئيسية لمنتدى (قدوة) اكتساب القيم الأخلاقية، وهو عملية متواصلة تحتاج في كل مرحلة إلى أدوات مختلفة عن سابقاتها؛ العائلة لها أدواتها، والمؤسسة التعليمية لها أدوات مختلفة، فالعائلة الإماراتية تتسم بالانسجام والترابط والتمسك بالقيم والأخلاق الاجتماعية، وهذا الأمر انعكس على طبيعة المجتمع الإماراتي الذي يُشهد له بأنه نموذج للتسامح والتعايش بين الثقافات المختلفة».
وأضاف النعيمي: «تتطور الأخلاق بتقدم الزمن، وعلى هذا التطور أن يستجيب للتحديات التي تفرضها كل مرحلة، وتتمثل تحديات هذه المرحلة بالقدرة على بناء شخصية عصرية منفتحة وملتزمة بهويتها في آن، وبالقدرة على تعزيز القيم الإنسانية في مواجهة نزعات الكراهية والتطرف. إن تحقيق الرفاهية الاقتصادية والأمن والاستقرار الاجتماعي على مستوى العالم، يحتاج إلى بناء جيل يفهم أبعاد انتماءاته، ويعتز بانتمائه لأسرته ووطنه ومن ثم انتمائه للمجتمع الإنساني».
يعيش ويعمل في الإمارات نحو 200 جنسية، أي أن هناك نحو 200 جنسية يتعلم أبناؤها وتنمو شخصياتهم في مدارسها على أيدي معلمين من مختلف دول العالم، وتعد الزيادة السنوية في عدد الطلبة من الأسرع في العالم قياساً بعدد السكان، إذ تضاعف عدد الطلبة 19 مرة منذ تأسيس دولة الإمارات وحتى عام 2011؛ ففي عام 2013 بلغ عدد طلبة المدارس الحكومية والخاصة نحو 910 آلاف، ليرتفع في عام 2016 إلى مليون و37 ألفاً.
ولمواكبة هذه الزيادة في أعداد الطلبة والتنوع الكبير في جنسياتهم وجذورهم الثقافية، تنتهج الإمارات استراتيجية وطنية بأبعاد دولية تلبي حالة التنوع الفكري والثقافي بين صفوف الطلبة.
من جانبه، يرى حسين الحمادي وزير التربية والتعليم أن التعليم في دولة الإمارات يتسم بأهمية خاصة، إذ يتصف بتنوع منابت الطلبة وتعدد ثقافاتهم وأصولهم، وتعمل تحت مظلته مدارس كثيرة بمناهج دراسية مختلفة، فضلاً عن معلمين يتم استقطابهم من مختلف دول العالم، مشيراً إلى أنه رغم هذا التعدد، فإن المنظومة المجتمعية في الدولة تتسم بالتجانس والوفاق والتسامح، وذلك بفضل رؤية قيادة الإمارات وما ينبثق عنها من مبادرات وطنية تكرس لمفاهيم التعايش والمحبة والسلام وتقبل الآخر.
ويشير الحمادي إلى أن وزارة التربية تحرص على توظيف المنظومة التعليمية لتحقيق توجهات وتطلعات الدولة، وإرساء المضامين الأخلاقية وتوثيق صلة المجتمع المدرسي ببعضه، كون ذلك يرقى في المحصلة النهائية بالمخرج التعليمي، وهو الطالب الذي يتصف بانتمائه لوطنه، المعتز بهويته، الواثق بنفسه، المسؤول والقادر على التواصل مع الآخرين، ويمتلك مهارات العصر ويتسم بالإبداع والابتكار.
ويضيف وزير التربية والتعليم: «التربية الأخلاقية تتسم بمكانة خاصة، لا سيما لدى الجيل الجديد، فهو لا يتأثر بالإملاءات أو بالمناهج الجامدة بقدر تأثره بالقدوة الحسنة سواء في المجتمع أو المدرسة، كون هذا الجيل دائم البحث عن مثال يجسد القيم التي يحتاج إليها»، وأضاف: «نعمل على تعزيز قطاع التعليم بمدرسين مؤهلين وقادرين على التأثير إيجاباً في الطلبة من خلال ممارساتهم الشخصية وأفكارهم وسلوكهم وقدرتهم على عكس صورة إنسانية قوامها الأخلاق الحميدة التي تتجاوز الاختلافات الثقافية والمذهبية لتركيبة الطلبة في منظومة التعليم الإماراتي».
من جانبه، يقول الدكتور علي النعيمي رئيس دائرة التعليم والمعرفة وعضو المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي: «لا نحتاج إلى استعراض الدراسات التي أثبتت مدى تأثير الأخلاق في الواقع الاقتصادي والاجتماعي لكل دولة، فالدراسات كثيرة، والحقائق واضحة»، ويؤكد النعيمي على أن هناك علاقة شرطية بين الأخلاق والإنتاجية الفردية والجودة والشفافية ليس في القطاع الاقتصادي وحسب، بل في جميع قطاعات البلاد.
ويتابع النعيمي: «الأخلاق منظومة كاملة تشمل كل تفصيل في حياتنا اليومية، ويتوقف النجاح والتميز فيها على كفاءة هذه المنظومة وقدرتها على التأثير في مجمل ممارساتنا. إن الأخلاق محفِّز ومسرّع أساسي للنمو والتطور، وهي الدافع الرئيسي للتضحية بالوقت وتكثيف الجهد الشخصي في صالح الجميع. لا يمكن للأفراد أن يبدعوا ويتجاوزا حدود طاقاتهم إلا من خلال تنمية ورعاية أخلاقيات المهنة التي تترجم معاني الانتماء للوطن والإيثارية وحب الآخر والتضحية في سبيل الأهداف الكبرى، وهذه مسؤولية كل معلم ومعلمة في مؤسستنا التعليمية، وهدف جهودنا الرامية إلى تطوير قطاع التعليم في الدولة».
وزاد: «مع أن السمة الأساسية لهذا العصر هي الانفتاح وتلاشي الحدود بين الثقافات وسهولة التواصل بين الأعراق المختلفة، فإننا نشهد تنامياً في نزعات التفكيك والكراهية للآخر والانغلاق على الذات. كيف نستطيع تجاوز هذا التناقض بين الغايات من التطور التقني وما نشهده على الأرض من آثار سلبية؟ وكيف لنا أن نتعامل مع تأثير عولمة التواصل على خصوصية الثقافة والهوية في كل مجتمع؟!».
وبالعودة إلى محمد النعيمي مدير مكتب شؤون التعليم في ديوان ولي عهد أبوظبي، قال: «أحدثت ثورة التواصل والاتصال وتقنياتها الحديثة تغييراً جذرياً في منظومة القيم والأخلاق والمفاهيم الفردية والاجتماعية، ولكن هذا التغيير يجب أن يكون إيجابياً لأن الجيل الجديد يحتاج إلى المساعدة في تطوير وعي نقدي قادر على فلترة ما يتدفق من معلومات وثقافات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. إن الحداثة سلاح ذو حدين، والحداثة بلا أخلاق تؤدي إلى تفكك المؤسسة الاجتماعية وتعزيز الفردية والاستهلاك وتعويم الانتماء وذوبان القيم الأصيلة».
وأكد النعيمي أن الهدف من إدراج مادة التربية الأخلاقية في المدارس تحصين القيم الإنسانية الأصيلة التي تشكل أساس شخصية الفرد، فمن دون هذه القيم التي يجب أن تجمع بين الفرد والمجتمع في إطار من التعاون وتبادل المصالح واحترام الآخر، لن تتمكن الهوية الخاصة من مقاومة التدفق الهائل للأفكار المختلطة وغير المنظمة. على التربية الأخلاقية أن تكون دائماً مقياس صلاحية كل جديد؛ ما ينفع وما لا ينفع.