تعددية التعليم في مصر... فرص نجاح لمن يمتلك «القدرة الشرائية»

يعاني المجتمع المصري من أزمة تعددية أنماط التعليم منذ عهد محمد علي باشا، الذي وافق على إنشاء مدارس مدنية في مقابل التعليم الأزهري الديني. وظهرت الأزمة بوضوح في بدايات القرن العشرين، حيث وجدت أنماط تعليمية خاضعة للإرساليات الدينية، والتي أخذت على عاتقها نشر التعليم الفرنسي. وأدى وجود جاليات أجنبية متعددة إلى تأسيس مدارس لا دينية تعزز تعليم اللغة الإنجليزية في مقابل الفرنسية، وبعد ثورة 1952 تم تأميم عدد كبير من تلك المدارس الأجنبية، ولكن ظهرت أنظمة تعليمية أخرى أحدثها المدارس الدولية الأميركية والإنجليزية والألمانية والكندية، والتي أصبحت تقدم للمصريين تعليما بشهادات دولية، وبمصروفات خرافية تتراوح ما بين 65 ألف جنيه، وتصل إلى 400 ألف جنيه سنويا (الدولار الأميركي يعادل 17.6 جنيه مصري).
ويأتي هذا التعدد في أنظمة التعليم انعكاسا للفجوة المتزايدة بين طبقات المجتمع المصري، حيث تأتي متواكبة مع ظاهرة انتشار المجمعات السكنية المغلقة «كومباوند» والتي تقام بداخلها المدارس الدولية وفروع الشركات متعددة الجنسيات التي تعزل ساكنيها عن باقي أفراد المجتمع. ومؤخرا صرح الإعلامي أحمد خيري، المتحدث الرسمي باسم وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، بأن قاعدة بيانات وزارة التربية والتعليم تشير إلى أن إجمالي المدارس الرسمية الحكومية (43223) مدرسة، والمدارس الرسمية الحكومية لغات (2445) مدرسة، والمدارس الخاصة (7777) مدرسة، بإجمالي عدد (53445) مدرسة.
أما إجمالي عدد المدارس الدولية فبلغ (768) مدرسة، موزعة على أنحاء الجمهورية بين مدارس دولية رسمية بعدد (5) مدارس، ومدارس دولية رسمية لغات بعدد (18) مدرسة، ومدارس دولية خاصة لغات بعدد (745) مدرسة. كما تتضمن القاعدة مدارس التعليم الفني بإجمالي عدد (2249) مدرسة، موزعة بين مدارس التعليم الثانوي الصناعي بعدد (1137) مدرسة، ومدارس الثانوي الزراعي بعدد (241) مدرسة، ومدارس الثانوي التجاري بعدد (755) مدرسة، ومدارس التعليم الفندقي بعدد (116). أما عدد مدارس التربية الخاصة التي تتضمنها قاعدة البيانات هي (948) مدرسة.
يقول الخبير التربوي دكتور عبد الحفيظ طايل، رئيس المركز المصري للحق في التعليم لـ«الشرق الأوسط»: هناك شكلان لتعدد أنماط التعليم، الأول: «ينطوي على تعدد الخيارات التعليمية المجانية أمام الأطفال والأوصياء، وهو الذي يعنى بإتاحة أشكال متعددة من التعليم، لكن شرط المجانية هنا هو الحاكم؛ أي أنه من المفترض أن يقدم المجتمع أنماطاً متعددة مجانية يمكن للأوصياء أو أولياء الأمور الاختيار من بينها، أما الشكل الثاني: تقديم أنماط تعليمية مرتبطة بالقدرة الشرائية للأسرة، وفي هذه الحالة، يقوم المجتمع بعمل استبعاد اجتماعي لأبناء الفقراء ويحدث تمييز بين الفقراء وأبناء الأميين وطبقة الأغنياء الميسورين».
«هناك تمييز منهجي رسمي يمارس بحكم القانون والقرارات الوزارية واللوائح ضد الفقراء»، يوضح طايل أن الإشكالية في أنظمة التعليم المصري تكمن في وجود أنماط متعددة وتمييز داخل التعليم الحكومي، قائلا: «تقدم الدولة تعليما مجانيا، وتعليما تجريبيا وتشترط فيه أن يكون الأب والأم حاصلين على مؤهل عال، وينقسم التجريبي بدوره إلى تجريبي عربي، وتجريبي لغات، وذلك تحت شعار أنه أكثر جودة من التعليم المجاني، ثم تقدم الدولة التعليم المميز، وهو التعليم الحكومي بمصروفات تبلغ قيمتها 3 أضعاف التعليم التجريبي، ثم هنالك مدارس النيل وهي حكومية بمصروفات تبلغ قيمتها 15 ألفا في السنة».
ويشير طايل إلى أن التعليم الأزهري أيضا بداخله أنماط متعددة منها «أزهري عادي، وأزهري تجريبي، وأزهري لغات، أما من يفشل في الالتحاق بأي من هذه المدارس فيلجأ إلى التعليم الفني، وهو للأسف يضم 65 في المائة من الطلاب الفقراء في مصر، ويتم الالتحاق به بعد المرحلة الإعدادية، فضلا عن عشرات الاختيارات داخل نمطي التعليم الخاص اللغات، والمدارس الدولية».
ينتقد طايل تلك التعددية في العملية التعليمية المصرية، لافتا إلى أن «المعيار الحاكم فيها هو القدرة الشرائية أي قدرة الأسرة على دفع النفقات، وبهذا الوضع يتفاقم (الاستبعاد الاجتماعي) للطبقات الفقيرة وستكون النتائج واضحة بعد 10 سنوات حيث تزداد الفجوة الاجتماعية ويتقلد خريجو التعليم الدولي الوظائف العليا كافة، وهو ما يعد جريمة مكتملة الأركان ضد الفقراء».
تقدر أحدث الإحصاءات الصادرة من الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، أن نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر 27.8 في المائة، ووفقا للإحصاءات والتقارير الحكومية الرسمية في بداية العام الحالي، يقع نحو 30 مليون مصري تحت خط الفقر.
وحول ما إذا كانت المدارس الدولية تقدم الجودة التعليمية التي تفتدها المدارس الحكومية والتي أفرزت ظاهرة «الدروس الخصوصية»، يقول طايل: «تقدم تلك المدارس تعليما أقل سوءا، وتقدم ما يمكن أن نسميه (حالة فندقية) بمحتوى تعليمي أفضل وكثافة فصول أقل، لكن المحصلة النهائية ليست جيدة».
ترى الدكتورة مها بالي، أستاذ ممارس مساعد بمركز التعلم والتدريس بالجامعة الأميركية بالقاهرة، أن مبدأ وجود اختيارات مختلفة للتعليم ليس أمرا سيئاً، ولكن تكمن الإشكالية في أنه يثير مشاكل مختلفة متعلقة بأبعاد تعليمية واجتماعية وثقافية أخرى.
وتقول بالي لـ«الشرق الأوسط»: «أبرز الإشكاليات التي تظهر فيما يتعلق بتعددية أنظمة التعليم، هي زيادة الفجوة بين نوع التعليم الذي يتلقاه الأثرياء من الشعب، وما يتلقاه باقي الشعب، ما يؤثر بعد ذلك على فرص التعليم العالي وسوق العمل بعد ذلك. أما الإشكالية الثانية فتكمن في وجود اختلاف شديد في مستوى طلاب المدرسة الأجنبية (في أغلب الحالات) في اللغة العربية لزيادة التركيز على اللغة الأجنبية، مع إهمال اللغة العربية في المقابل. وهناك ما يدعو للقلق من ناحية تربية الشخصية والهوية المصرية والانتماء للوطن وثقافته، لا سيما حينما يترعرع الطفل في ثقافة أجنبية ويعتقد أنها تتفوق على ثقافته».
وتثير الدكتورة بالي نقطة خطيرة فيما يتعلق بوجود أنماط متنوعة من التعليم الديني، متسائلة: «ما نوع الرقابة على التعليم الديني للتأكد من أنه معتدل ويدعو لاحترام الآخر وما إلى ذلك؟». لافتة إلى أن تعدد الأنماط التعليمية يؤدي لعرقلة عملية إصلاح العملية التعليمية، قائلة: «عندما يتحدث الشعب عن إصلاح التعليم نحن لا نتكلم عن شيء واحد، بل عن أنماط متعددة مختلفة عن بعضها، لذا فإن أي قوانين توضع لتحسين مستوى التعليم في نظام معين أحيانا لا تساعد نظاما آخر، لأنه مختلف. مثلا هناك قوانين عن حجم الفصل وضعت لتناسب الفصل التقليدي ولكنها غير قابلة للتطبيق مع الفصل الذي يستخدم التكنولوجيا، وأحيانا تعرقل بعض أنواع الإبداع في طرق التعليم».
وتعود لتؤكد أنه رغم هذه الإشكاليات، فإن «وجود اختيارات مختلفة للآباء مفيد، ولكن يجب أن تكون هناك معايير للتأكيد على أن النظم التعليمية الخاصة لا تأخذ من حقوق النظم العامة ولا تنتقص، أو تقصر في تعليم اللغة العربية وترسيخ الهوية المصرية، بل وينبغي أن تكون هناك نظم للتأكيد على أنها ذات مستوى تعليمي لائق، خاصة أن بعضها لا يهتم بالتعليم وجودته».
يعلق الدكتور هاني خميس، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإسكندرية، على ظاهرة التعددية التعليمية وتأثيرها الاجتماعي لـ«الشرق الأوسط»: «لا شك أن وجود أنماط متعددة من التعليم في مصر أثرت على التماسك الاجتماعي، وأدت إلى وجود فجوة طبقية وتمايز بين أفراد المجتمع الذين نشأوا في ثقافات مغايرة عن مجتمعهم ويحملون فكراً وأسلوباً ونمط حياة مختلفاً، فضلا عن كونهم يتحدثون لغات أخرى، مما يخلق لديهم حالة من عدم الاندماج داخل المجتمع، بل وأدت إلى محاولة هذه الفئات الانعزال عن باقي أفراد المجتمع فيما يعزز ذلك الاستبعاد الاجتماعي للطبقات الأخرى».
ويحذر خميس من «تعزيز الأنظمة التعليمية المختلفة لثقافات أجنبية غير متجانسة مع ثقافة المجتمع المصري، سيؤدي إلى صراع اجتماعي طبقي، فمثلا التعليم الدولي سيعزز فرص عمل طلابه في الشركات الدولية ومتعددة الجنسيات، وبالتالي تقل فرص العمل أمام خريجي الأنظمة التعليمية الحكومية، ولا يحدث حراك اجتماعي، بل تتضاءل الطبقة المتوسطة التي هي صمام الأمان لأي مجتمع. للأسف هذه التعددية التعليمية ستظهر مخاطرها بشكل كبير خلال السنوات المقبلة وما يتبعها من تزايد معدلات الجريمة والعنف بكل أشكاله وصوره».