بعد ألف عام... الحروب الصليبية أدبياً

بعد ما يقرب من ألف عام على انطلاق أولى سلسلة الهجمات التي شنّها الغرب على المشرق العربي بدايةً من حملة البابا إربان الثاني عام 1095، التي استمرت بعدها لعدة قرون فيما عُرفت في المراجع التاريخيّة الغربيّة بالحملات الصليبيّة لتحرير «الأراضي المقدسة»، فإن هذه الهجمات البربرية السافرة في عنفها ما زالت تحظى بفضول المؤرخين والبحّاثة على نحو متجدد. ولعل الجانب الذي يحتمل مساحة أوسع للاجتهاد بشأن حقيقة هذه الحروب بعد سرد الأحداث التاريخيّة ذاتها -التي تكاد تكون في غالبها شبه متفق عليها بين المصادر الغربيّة والإسلاميّة– هو في محاولة فهم البواعث الممكنة التي دفعت بخروج فرسان ومقاتلين أوروبيين مسيحيين ينتمون إلى طبقات اجتماعيّة مختلفة من بلادهم ومجتمعاتهم غُزاة تحت راية الصليب يقتلون ويسلبون ويغتصبون باسم السيد المسيح في واحدة من أسوأ موجات العنف المجاني واسع النطاق في التاريخ المدوّن، ويتعرضون بدورهم للقتل أو الأسر على أيدي السكان المحليين.
بالطبع فإن مصادر كلاسيكيّة عديدة أرجعت ذلك دائماً إلى دوافع دينيّة بالأساس، حيث أمم أوروبا التي اعتنقت المسيحيّة على نطاق واسع اعتبرت دوماً العرب المسلمين بمثابة غزاة احتلوا الأراضي المقدسة التي عاش فيها السيّد المسيح وأمه وأتباعه المقربون وفيها دُفنوا، وأن الإيمان الصحيح يستلزم من أتباعه أن ينفروا لتحريرها منهم. لكن ستيفان فاندر إلست في كتابه الجديد «الفارس والصليب والأغنية: البروبوغاندا الصليبيّة وأدب الفرسان 1100 – 1400»، مطبعة جامعة بنسلفانيا، يعتقد أنْ لا قداسة في هذه الحروب التي شُنت باسم القداسة، وأن نظريّة الدافع الإيماني الطهروي لا تصمد أمام البحث المعمق في ثقافة الفترة التي شُنت خلالها تلك الحروب، كما أيضاً الكليشيهات عن شبان مغامرين طامعين بامتلاك أراضيهم الخاصة بعد أن امتلك الملوك والنبلاء والكنيسة معظم المناطق المسكونة من القارة الأوروبيّة.
فاندر إلست يعيد تصوير الحروب الصليبيّة من منظور جديد بوصفها ظاهرة ثقافيّة – اجتماعيّة، وهو يقدّم سرداً تاريخيّاً مثيراً عن ترافق تلك الحملات مع تقاطع صعود طبقة الفرسان النبلاء وسلسلة من الأعمال الأدبيّة الرّومانسيّة والشعر الملحمي وكتب التاريخ عبر القارة الأوروبيّة، التي مثلّت في مجموعها نوعاً من حملة بروباغاندا مكثّفة متكاملة نفذتها مؤسسة الكنيسة وأتباعها خلال ثلاثة قرون لصياغة سرديّة أيديولوجيا «الحروب المقدّسة» بهدف استقطاب هؤلاء الفرسان وإغواء ميولهم الأرستقراطيّة من خلال ربط مصالحهم وأطماعهم الدنيوية وشرفهم العسكري وأنسابهم العائليّة وشكل حياتهم -العلماني غالباً– وحتى شبقهم للنساء والملذات الصاخبة، بخدمة الصليب المُعَسْكر، وتشريبهم هذه الأفكار بأدوات الثقافة التي كانت متوفرة حينها لجمهور العصور الوسطى.
فاندر إلست –الذي يدرّس الأدب الإنجليزي في جامعة سان دييجو بالولايات المتحدة– يبني نظريته هذه عبر استعراض جغرافي وزماني واسعيْن لنصوص أدبيّة لاتينيّة وإنجليزيّة وفرنسيّة وألمانيّة من ثلاثة قرون عاصرت الحروب الصليبيّة وتبدو عند تحليلها اليوم بمثابة مجهود «حربي» ذكي لصياغة ذاكرة الناس وإعادة تفسير الأحداث وفق منطق المجتمع حينها على نحو يضمن تدفق المنخرطين في تلك الحروب العدوانيّة.
يتركز التحليل في «الفارس والصليب والأغنية» على آداب تلك الفترة: قصائد الشعر الملحمي المعروفة بـ«الشانسون دي جيستي» أو أغنيات البطولات، والتي رافقت بدايات ظهور الأدب الفرنسي مثل (جيستا فرانكورم) -التي كانت بمثابة توثيق لبطولات الفرسان الأوروبيين في حملتهم الصليبية الأولى منذ انطلاقها نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1095، وحتى معركة عسقلان في فلسطين عام 1099، ويُفترض أنّها نُظِمت من قبل شاعر مجهول رافق الحملة- وكذلك نص «الحوليات الفرنسيّة» أو «لا شانسون دي جيروساليم»، ثم السرد الرومانسي عن سيرة الفرسان كما في «مسرد أحداث الأراضي البروسيّة» الذي كتبه الألماني نيكولاس فون جيروستشن (1290 – 1341) عن بطولات نظام الفرسان التيوتونيين، وملحمة «عندما أخذنا الإسكندريّة» لجويليام دي مانشوت التي سجلت وقائع حملة ملك قبرص بطرس الأول دو لوزينان الصليبية التي غزت الإسكندريّة في مصر عام 1365. هذه الأعمال وأمثالها وظفت مزيجاً من الدسائس السياسيّة والطموحات الدمويّة والإحساس بالواجب نحو العائلة، وأوهام التفوق القومي وأحلام التوسع الإقليمي لمصلحة سَوْقِ الفرسان إلى الأراضي المقدسة. ولم يتورع المثقفون الذين وضعوا هذه الكتابات عن سبك قصائدهم ورواياتهم في صياغات تناسب متطلبات الحشد للمعركة، فمثلاً تم التحول عن دعوات التبتل واعتزال النساء التي رافقت الحملة الأولى -وفي أقل من مائة عام بعد أن خفت الإقبال على الالتحاق بالحملات- إلى نموذج الفارس الرومانسي الذي يقاتل بشجاعة ليحظى بحب سيّدة حسناء فحسب.
يطور البروفسور فاندر إلست جدله عبر موازاة تاريخيّة ثريّة للتقاطع بين النصوص الأدبيّة وسياقاتها الحدثية تُظهر على نحو جليٍّ أن غرض النصوص الأساس لم يكن مطلقاً تسجيل الوقائع وتصوير الحملات الصليبية ذاتها بقدر ما كانت تخدم موضوع تعبئة الفرسان للقتال في المشرق. وهو يأخذ عن روبرت الراهب -الذي كتب واحداً من أهم ثلاثة نصوص غربيّة في تاريخ الحروب الصليبية- قوله بأن أغنيات البطولات الفرنسيّة المزعومة رسمت صورة للانتصارات الصليبيّة المبكرة في المشرق على نحو جعلها تبدو كأنها تجديد واستعادة معاصرة لقصص انتصارات شعب الله المختار في الأرض الموعودة كما رواها العهد القديم، وأنها أطلقت إحساساً عاماً بين الفرنجة الفرنسيين بتقمص دور الشعب المختار الجديد الذي يتسابق مثل بني إسرائيل في حج دموي نحو أورشليم ويستلهم روح العنصريّة والعنف الذكوري وكراهيّة الآخر.
يتخذ «الفارس والصليب والأغنية» مواقف محددة بشأن بعض الأحداث التاريخيّة، ربما قد لا يوافق على صحتها التيار العام من المؤرخين. واتهم بعض النقاد المؤلف بأنه في حرصه على صياغة نظرية متكاملة تعسَّفَ بعض الأحايين بتوظيفه الشواهد، مثلاً كما في سرده حكاية توزيع بيهموند الأنطاكي نسخاً من قصيدة «جيستا فرانكورم» على النبلاء بينما كان يتجول في أوروبا عام 1106 ليجمع المقاتلين، وهي الحكاية التي نفاها مؤرخون رئيسيون من العصور الوسطى على أرضية تفضيل بيهموند المعروف لترويج دعاياته المؤدلجة من خلال الاستعراضات البشريّة والحملات الشفوية بدلاً من النصوص المكتوبة. ورغم أن فاندر إلست يشير في إحالاته إلى وجود جدل بشأن بعض هذه الروايات، فإنه لا يوضح لقرائه لماذا اختار جانباً من ذاك الجدل دون آخر.
كتاب فاندر إلست إضافة مهمة للغاية، ليس فقط في مجال تفكيك تاريخ الحروب الصليبيّة وتخليصه من التصويرات عميقة الأدلجة التي أفقدته صورته الحقيقيّة، أو حتى في تطويره قراءة معاصرة للنصوص الأدبيّة الكلاسيكيّة من خلال فهم سياقاتها الحدثيّة وإطاراتها السياسيّة -بوصف العمل الأدبي، مهما علا قدره فنياً، فإنه في النهاية ليس إلا عملاً سياسياً محضاً يصدر عن موقف منحاز لجهة دون أخرى- بل هو كبوابة تفتح فضاءً حدوده سماوات واعدة بين المختصين عبر شمال المتوسط وجنوبه في الآداب والتأريخ العسكري والسياسي والثقافي وعلوم الاجتماع والأنثروبولوجيا لإعادة بناء تاريخ تلك الحلقة المحزنة من تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب على نحو يسمح للشعوب بأن تتحرر من ظلاميات الماضي، ولا تعود يوماً إلى ذبح الآخر المختلف تحت راية الدين. فتلك هي مهمة الثقافة كما يقول ثيودور أدورنو في معرض تعليقه على أنباء الهولوكوست في الحرب العالميّة الثانية.