هراء... اعتبار السياسة بعيدة عن الرياضة

قرر نادي برشلونة الإسباني خوض مباراته أمام لاس بالماس من دون جمهور على ملعب «كامب نو»، بينما كانت شوارع المدينة بالخارج تشهد مواجهات عنيفة بين الشرطة والناخبين في استفتاء استقلال إقليم كاتالونيا عن إسبانيا، وهو الاستفتاء الذي حكم القضاء الإسباني بأنه غير قانوني. واتخذ برشلونة هذا القرار خوفا من خصم ست نقاط من رصيده في الدوري الإسباني الممتاز - ثلاث نقاط باعتباره مهزوما في اللقاء وثلاث نقاط أخرى كعقوبة في حال انسحابه من المباراة.
وكان القرار الذي اتخذه النادي هاما للغاية، لأن ناي برشلونة يعد رمزا دوليا قويا للهوية الكاتالونية. ولو رفض برشلونة خوض مباراته أمام لاس بالماس لأضاف مزيدا من الزخم للحركة التي تطالب بالاستقلال. لكن برشلونة يدرك جيدا أنه ينافس في دوري كان الفارق بينه وبين منافسه التقليدي ريال مدريد خلال السنوات الثلاث الماضية نقطتين ثم نقطة ثم ثلاث نقاط، ولذا اتخذ النادي الكاتالوني الخيار الأكثر أمانا، وترك لاعبه جيرارد بيكيه الذي لم يُخفِ يوما فخره واعتزازه بانتمائه لإقليم كاتالونيا ينضم للمنتخب الإسباني ويواجه أسئلة غير مريحة حول ولائه لمنتخب إسبانيا أم لإقليم كاتالونيا.
وفي الوقت نفسه، ضرب المشجعون الذين صوتوا من أجل الاستقلال مثالا بالأندية الويلزية التي تلعب في الدوري الإنجليزي الممتاز كدليل على أن الاستقلال عن إسبانيا لا يعني بالضرورة خروج برشلونة من الدوري الإسباني. ويريد قليلون منهم أن يستقل إقليم كاتالونيا بشكل كامل وأن يتم دمج نادي برشلونة في دوري مصغر يضم أندية جيرونا وجيمناستيك تاراغونا وليدا إسبورتيو. ما يثير الضحك أن وسط هذا الجدال نسمع من يقول إن السياسة بعيدة عن الرياضة!.. فالسياسة تتسلل إلى الرياضة على جميع المستويات. فقط عليكم أن تفكروا في القرار الذي اتخذ بإقامة سباق طواف إيطاليا للدرجات الهوائية أو «جيرو دي إيطاليا» في إسرائيل العام المقبل. فبالنسبة لأحد الشركاء في الصفقة، فإن الأمر يتعلق بالمال لأنه سيحصل على نحو 17 مليون يورو، أما بالنسبة للشريك الآخر، فإن ذلك يعد خطوة لتحسين صورته. وهناك أيضا قطر التي كشفت منظمة «هيومن رايتس ووتش» خلال الأسبوع الحالي طريقة تعاملها المروعة مع العمال الأجانب الذين يعملون في الملاعب التي ستستضيف نهائيات كأس العالم 2022، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم الكشف فيها عن هذه الانتهاكات. فهل نصدق حقا أن القطريين يستثمرون بهذا الشكل الكبير في كرة القدم، في الداخل والخارج، لمجرد أنهم يحبون اللعبة؟.
وقد تخبرنا الأيام المقبلة ما إذا كان فريق برشلونة سيلعب دورا في إعادة إحياء التوترات الإقليمية القديمة، وما إذا كانت أحداث الأسبوع الماضي ستنضم إلى مباريات كرة القدم التي لعبت دورا في تشكيل التاريخ، وهي الظاهرة التي يمكن أن يقال إنها بدأت عام 1969 بصراع بين السلفادور وهندوراس أصبح يعرف فيما بعد باسم «حرب كرة القدم».
وقد تفاقمت التوترات بين البلدين بسبب هجرة مئات الآلاف من السلفادوريين إلى هندوراس، مما جعل هندوراس التي تقل مساحتها عن السلفادور بمقدار الخمس يزيد عدد سكانها عن جارتها بنسبة 40 في المائة، وهو ما دفع حكومة هندوراس إلى سن إصلاحات ترمي إلى منع المزارعين المهاجرين من زراعة الأراضي وطردت العمال السلفادوريين. وقد اشتعل فتيل الأزمة عندما التقى البلدان في التصفيات المؤهلة لنهائيات كأس العالم عام 1970.
أقيمت المباراة الأولى في العاصمة الهندوراسية تيغوسيغالبا، حيث لم يتمكن لاعبو الفريق الزائر من النوم بسبب الحشود الغفيرة من الجمهور التي كانت تطلق الألعاب النارية وتكسر نوافذ الفندق الذي يقيم فيه الفريق. فازت هندوراس في المباراة بهدف وحيد، وهو ما دفع فتاة تبلغ من العمر 18 عاما تدعى إميليا بوليانوس، كانت تشاهد المباراة في منزلها في السلفادور لأخذ مسدس والدها من مكتبه وإطلاق النار على نفسها لتموت في الحال. أقامت السلفادور جنازة رسمية للفتاة، ورافق نعشها رئيس الجمهورية ولاعبو منتخب السلفادور لكرة القدم.
وعندما وصل منتخب هندوراس إلى السلفادور لخوض مباراة العودة بعد أسبوع، رحب به جمهور البلد المضيف بإلقاء البيض الفاسد والجرذان الميتة من خلال نوافذ الفندق. ووصل منتخب هندوراس إلى ملعب فلور بلانكا، الذي استضاف المباراة، في سيارات مصفحة ومر بحشود غاضبة تحمل صور الفتاة التي قتلت نفسها.
فازت السلفادور في هذه المباراة بثلاثة أهداف نظيفة، وهو ما كان يعني خوض مباراة فاصلة بين البلدين على أرض محايدة في مكسيكو سيتي. فازت السلفادور في المباراة الفاصلة بثلاثة أهداف مقابل هدفين بعدما امتدت المباراة لوقت إضافي، وجاء الهدف الثالث عن طريق الجناح الأيمن بيبو رودريغيز، بعد بضع ساعات من قيام حكومة السلفادور بقطع علاقاتها الدبلوماسية بهندوراس احتجاجا على مزيد من عمليات الطرد الجماعية.
وبعد أسبوعين، شن الجيش السلفادوري والقوات الجوية غزوا على هندوراس، واستمرت الحرب 100 ساعة وقتل فيها ثلاثة آلاف شخص، معظمهم من المدنيين، قبل أن يوافق الجانبان على دعوة من منظمة الدول الأميركية لوقف إطلاق النار. وبعد ثلاثة أشهر فازت السلفادور على هاييتي في مباراة فاصلة لكي تتأهل إلى نهائيات كأس العالم 1970 في المكسيك، لكنها خسرت المباريات الثلاث التي لعبتها في المونديال.
وبعد عشرين عاما، سافر نادي ريد ستار بلغراد للقاء دينامو زغرب في مباراة بالدوري اليوغوسلافي في خضم تصاعد التوترات بين القوميين الصرب والكروات. واستمرت أعمال الشغب بين مشجعي الفريق المستضيف للمباراة وثلاثة آلاف من أنصار الفريق الزائر خلال المباراة نفسها وكانت المباراة على وشك الإلغاء بعدما شهدت توترات كبيرة عندما قام زفونيمير بوبان، صانع ألعاب دينامو زغرب، بركل ضابط شرطة. وعلى الرغم من التهم الجنائية التي وجهت لبوبان وإيقافه الذي أدى لغيابه عن المشاركة في نهائيات كأس العالم بإيطاليا عام 1990، فإن ما قام به جعله بطلا قوميا بين الكروات خلال الحرب الدموية التي اندلعت خلال الفترة بين عامي 1991 و1995، وهي الفترة التي كان يلعب خلالها مع نادي ميلان الإيطالي وكان يرسل جزءاً من راتبه إلى وطنه للمساعدة في القتال ضد الصرب.
وبالعودة إلى مكسيكو سيتي، كانت قبضة تومي سميث وجون كارلوس في عام 1968، واليد اليسرى التي أحرز بها دييغو مارادونا هدفا في مرمى إنجلترا عام 1986 بمثابة بيانين سياسيين، فالأول كان بمثابة احتجاج صريح ضد الظلم العنصري في الولايات المتحدة، في حين كان الثاني ردا ضمنيا على انتصار إنجلترا في حرب فوكلاند. وقبل عامين من الآن، كان علم «ألبانيا الكبرى» يرفرف من طائرة دون طيار على ملعب بلغراد، الذي كان يشهد مواجهة بين صربيا وألبانيا في إطار التصفيات المؤهلة لنهائيات كأس الأمم الأوروبية عام 2016، وهو ما أدى إلى اشتباكات بين اللاعبين والمشجعين وأدى في نهاية المطاف إلى إلغاء المباراة.
إن ما حدث مع برشلونة في نهاية الأسبوع الماضي والهجوم المستمر من جانب الرئيس الأميركي دونالد ترمب على حركة «انحن» في مباريات كرة القدم الأميركية - حيث يقوم اللاعبون بالجثو على ركبة واحدة أثناء عزف النشيد الوطني احتجاجا منهم على ما يصفونه بوحشية الشرطة في التعامل مع الأميركيين من أصول أفريقية - يظهر أن الرياضة لا يمكن أن تنأى بنفسها بعيدا عن ضغوط ومشكلات العالم الحقيقي. وفي الحقيقة، تعد الرياضة مسرحا للاحتجاجات، بدءا من المقاطعات المناهضة للفصل العنصري في ستينات القرن الماضي وصولا إلى المظاهرات المناهضة لإقامة سباق جائزة البحرين الكبرى.