الإحباط الإنساني بطلاً في «حائط غاندي»

يتوغل الإحباط الإنساني بصور وأقنعة مختلفة، ويومض كبطل متخف، مهمش ومسكوت عنه في قصص مجموعة «حائط غاندي» للكاتبة عزة رشاد، الصادرة حديثا عن دار «كيان بالقاهرة». فنحن أمام شخوص محبطة في واقعها وأحلامها وهواجسها ونظرتها لذواتها وللحياة، ضجرة إلى حد السأم والملل والرتابة والشعور بالعبث والغثيان واللاجدوى. ومع ذلك، لديها القدرة على التفنن في اللعب مع هذه الإحباط، فتتعايش معه، وتلبسه أقنعة من التهكم والسخرية والفانتازيا والخرافة التي تشارف الأسطورة في الكثير من الأحيان. ليس فقط بحثا عن حل، أو طريقة للهرب، وإنما لكي يصبح هذه الإحباط موقفا إيجابيا ضد واقع شائك وملتبس وقاس، أصبح الوجود فيه بمثابة فكرة محبِّطة ومحبَّطة معا.
تتكشف مرايا هذا الوجود في القصة الاستهلالية للمجموعة «رسائل بظهر الغيب» وتتهشم هذه المرايا بشكل مباغت على إثر فنبلة بدائية الصنع وضعها إرهابي في حقيبة تحت مقعد بمتنزه عام، وإمعانا في التهكم المر تطلق عليها الكاتبة «حقيبة نيرون» الذي أحرق روما بعد أن أغرقها في الفوضى والفتن السياسية.
ينعكس ظل نيرون برمزيته السياسية، على شاب يجلس بالمتنزه، يرتدي نظارة طبية سميكة، ويخرج من حقيبته صور حبيبته الغادرة ورسائلها ويمزقها ويدوس عليها... بينما على مقعد مقابل له يصرخ شيخ كان يرافق حفيده: حرام تكسر الورد.
في المشهد نفسه داخل المتنزه تتمنى الشابة التي تحولت إلى بائعة هوى ألا يأتي الزبون، وتُرزق بزوج ابن حلال تحقيقا لدعوات أمها، وهي تشاهدها كل يوم تملأ حقيبتها بالأوراق والماكياج والأمشاط «عقبال ما تمليها حفاضات وكوافيل». هناك أيضا بائعة المناديل الورقية التي تعبر الحقول مبكرا ببقجتها الدمور وطفلتها المرحة ذات الضفيرتين الطويلتين.
في ذاكرة المشهد وفي شكل مونتاج زمني متقطع، تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة تعلق صورة بوسطجي يحيي حقي وحيرته، في غلق مظاريف الخطابات بعد أن فتحها، واختلطت متعة تسرية الوقت لديه، بحكايات ومصائر صادمة، كما تعلق صورة المهاتما غاندي وحماماته البيضاء برسائلها الشريدة، وصحته المعتلة نتيجة إضرابه الطويل عن الطعام، وفشل العصيان المدني بصفته سلاحا سلميا لمقاومة الاحتلال والإحباط.
في داخل كل هذا الشخوص رسائل لم تصل، عجز البوسطجي عن أن يفضها، ولم يستوعب «جوته» ولا «نيرون» معنى الحياة في شظاياها الذابلة... هي غربية عنهم؛ لأنها ابنة إحباط لا يملك ترف الضرورة، بل يقف دائما على حافة تشبه الأمل أحيانا، والحياة أحيانا أخرى... هكذا يبلغ المشهد ذروته مخلفا نتفا من ظلال هذه الرسائل وكما تقول القصة «وجدوا بجوار الأشلاء، بقجة دمور، وعدساتٍ طبية سميكة، وشريطا من حبوب منع الحمل، وورودا دهستها الأقدام».
هذا البناء المركب بسلاسة لغوية مغوية يشكل خصصية فنية في فضاء قصص المجموعة، وفي الوقت نفسه، يجعلها مفتوحة بحيوية على البدايات والنهايات، فالقصة تنتهي لتبدأ، ربما بالعزف على أوتار زوايا أخرى، قد تكون منسية ومهمشة، ومسكوتا عنها، ومطمورة في طوايا المشهد نفسه، وربما تستعيد ظلالها، في حقائق أخرى تشبهها، أو تشير إليها، أو تذكِّر بها خاصة في واقع تباعدت فيه الظلال والصور، على شتى المستويات سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وغيرها.
فنيا، يلفت هذا البناء إلى مقدرة الكاتبة، على خلق حيوات وأدوار فاعلة وفي مساحات صغيرة، قد لا تتجاوز بضعة أسطر، لشخوص ثانوية، أو على الهامش، لكن، تبدو أهميتها أنها تضيء الصورة في لحظة ما، أو تضيف لها ملمحا مهما ولو بالمصادفة العابرة. ما يعني أن القصة رقعة وجود حية، رغم ما يعتري هذا الوجود من نقص وتعسف وتشويه تحت مطرقة الواقع والزمن أحيانا. إنها إذن ليست مجرد مساحة متخيلة على الورق، ولا محض صورة تحاول أن تتطابق مع الواقع أو تستدعيه بقوة الذاكرة والخيال. إنها الواقع نفسه، في حقيقته التي يحاول أن يهرب منها أو يتناساها عمدا تحت وطأة الظروف والإحباط.
في قصة بعنوان «عراء» لا تتجاوز نصف الصفحة، تقف البنت التي لا يتجاوز طولها ارتفاع الكرسي، كطوق نجاة حائر، بين زوجين، يبدو أنهما أدمنا الشجار... ويتعقد حبل الحوار في جملتين اثنتين: - انزلي قوللي للبواب هات المأذون... - لأ ما تنزليش».. في غبار المشهد لا يلاحظ الزوجان التي شاءت الظروف أن يكونا أبا وأما لهذه الصبية التعيسة الحافية القدمين أنها في حاجة إلى عناق.
الخيط نفسه المسكون ببذرة ميلودراما مقموعة، لم تتفجر لاعتبارات كثيرة، معظمها يتعلق بميراث الأعراف والتقاليد، يتناثر في أجواء الكثير من قصص المجموعة، متقلبا ما بين أمرين، أحلاهما مر، بين العيش في ظل إحباط محتمل، وبين توقع مصادفة مجهول طارئ، قد يعصف بكل شيء... ففي قصة «قبعة وبدائل أخرى»، ترضخ البطلة المتمردة لفكرة قص شعرها المجعد، لتتخلص من عناء غسيله وتسريحه وفرده والاعتناء الخاص به، بل ترى في ذلك سلوكا ثوريا، فلن يجد المخبر شيئا يشدها منه في المظاهرات يجعلها تصرخ، مثلما حدث لها من قبل. ورغم جو الفانتازيا الذي يتناثر في أجواء القصة، إلى حد الموضة، وشراء أنواع من القبعات تناسب ألوان الثياب، سيرتبك المخبر ولن يجرؤ على نزعها من فوق رأسها؛ لأن ذلك يعد من الكبائر.
رغم ذلك تخلف القص إحساسا ما بأن ثمة مرضا عضالا، وراء كل ذلك... إنها إذن بذرة الميلودراما تفرض وجودها المتخفي، ولا يبقى سوى التحايل على هذا الوجود، ولو بالسخرية منه.
تطل هذه البذرة على نحول لافت أيضا في قصة «رسالة علياء» الفتاة الصغيرة المشغوفة بصورتها في المرآة وقصص التاريخ، وأول حذاء انتعله الإنسان، حتى يصون قدميه ويكف عن المشي حافيا، لكنها تسقط صريعة رصاصات غادرة من إرهابي ملثم على دراجة بخارية، أخطأت شخصا من جيرانها بلباسه الميري، فجلس على الرصيف يتنفس بصعوبة، يتأمل جسدها الملفوف بملاءة، وهو يدلف إلى سيارة الإسعاف لم يصدق أنه كان مستهدفا وأنه نجا.
لكن هذا الإحباط، التي ترصد مناخاته الكثير من القصص يصل إلى ذروته الدرامية الفاجعة، حيت يتحول إلى قوة سالبة للوعي، ومبررا للقتل وارتكاب الجرائم؛ فعبقرية الشاب المزعومة في قصة «رسم بقلم الرصاص» لم تجد الرواية الساردة دليلا ماديا عليها يشي بامتلاكه هواية حاذقة أو مهارة خاصة، سوى رسم لم يكتمل بعد، بالقلم الرصاص لطائر يحلق في الأعالي. لكن في الخلفية يتناثر الكلام بين الساردة وجارتها عن أن الشاب نفسه حفظ ستة أجزاء من القرآن قبل دخوله المدرسة، وأنه سبق أقرانه في تعلم حروف الهجاء... وفي زاوية قصية من المشهد الدامي، تتساءل الساردة وكأنها تحادث نفسها: «هل تخيلتْ يوما أن تتناقل صورة ولدها الشاشات... ضغطتٌ الزر مرة ثم أخرى، في الأولى رأيت الملامح الأسطورية لبطل، وفي الأخرى ظهرت ملامح مجرم».
رغم هذا، يبقى الوعي بعالم الأنثى - المرأة، الحميم والخاص في كل مراحل نموها ونضجها، من أجلى صور الوعي بأبعاد ومكابدات الإحباط الإنساني في المجموعة، وهو وعي لا ينكفئ على ذاته، بل دائما مشرّب بروح مصرية، وبحس لغوي شفيف وسلس، تعلق به لطشات ودودة من الحكي الشفاهي، تعكس خبرة التراث والحياة، عبر الأمثال والنوادر والعِبر ذات الإيقاع الشعبي الراسخ... فلا بأس أن نجد في بعض القصص تعابير من مثل «سقطت زرع بصل»: «أخذ النملية بلوشي»: «حلالك بلالك ورزقك نادالك»... وغيرها.
تقرب هذه اللطشات القارئ من أجواء القصص، وتخلق نوعا من الحميمية والمعايشة بينهما، فيحس أنه جزء من نسيج القص، أو موجود ضمنيا في الحكاية.
يعزز ذلك أن الكاتبة تجري مناوراتها فنيا باستخدام كل ضمائر السرد (الغائب أو المتكلّم أو المخاطب)، بل إنها أحيانا تجمع بينها في نسيج القصة الواحدة، بصيغ مختلقة، تتفاوت ما بين التمويه والوضوح. ورغم الوظيفة الجمالية التي يؤديها كل من هذه الضمائر، إلا أن ضمير المتكلم يظل هو المهيمن على مجريات القص؛ لأنه الأقرب إلى التماهي مع صوت الكاتبة الساردة، والأكثر قدرة على التعبير عن وجهة نظرها في العالم والواقع من حولها، كما أن ارتباطها به يبدو عضويا، بلا مسافة أو حواجز، مما تفرضها تجليات الضمائر الأخرى، والتي تبدو في كثير من الأحيان صدى أو ذبذبة لصوت ضمير المتكلم المهيمن. هذا الوعي بلعبة الضمائر يساهم في إنضاج المفارقة فنيا فتبدو ابنة النص وليست شيئا مقحما عليه من الخارج.
يتجسد هذا على نحو خاص لافت في قصة «حائط غاندي» التي وسمت عنوان المجموعة، فنحن أمام بطلة محبطة إلى حد ما، تحاول أن تتصالح مع وجودها، وإذابة تعارضاته جسدا وروحا، من منظور صورة مثالية تشبه الحلم تثبتها على جدار الحجرة تجمع بين جسد: «كلوديا كاردينالي، وعقل أينشتين، وقلب المهاتما غاندي». بعد فترة تتحول هذه الصور إلى قيد على حياتها، فحين تخلف وليدها تنزل صورة كلوديا كاردينالي وتضع صورته بدلا منها، وبعد نجاحها في المرة السابعة لاجتياز امتحان الدكتوراه، تنزل صورة أينشتاين، فلم يعد الحلم بعقله ذا جدوى.
وفي اللحظة التي تحاول أن تنقذ صبيا صدمته سيارة، بعد أن خطف حقيبة يدها، وتحمله إلى عربتها وهو مضرج بالدماء محتضنا الحقيبة، تختفي الحقيبة فجأة، فتضرب بكل شيء عرض الحائط لتنقذه، في هذه اللحظية الدامية وأمام مشهد الموت، تحس بالتصالح الحقيقي مع نفسها، وهي تتجه إلى المستشفى مسرعة بالصبي وتبتسم لغاندي.