التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية

انتصارا للعلم.. وليس لشيخ الإسلام

التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية
TT

التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية

التلبيس والتدليس الداعشي على ابن تيمية

* في تبريره لإجرامه الوحشي بحق الطيار معاذ الكساسبة، الذي لم يسبق إليه في الإسلام، حتى في عصر الخوارج الأول، لجأ «داعش» للإسناد المزور والملتبس والمدلس على شيخ الإسلام ابن تيمية.
وابن تيمية أكثر من تم تشويهه في تاريخ الفكر المتطرف والإرهاب المعاصر، دون تحقيق أو تدقيق واجب من مؤيديهم ومخالفيهم على السواء.
وتأكيدا على هذا التشوه المبكر نذكر أنه قد نشأ «فكر الجهاد المصري» ومجموعاته، التي وحدها محمد عبد السلام فرج، بعد أن وجد شاب عشريني مجموعة فتاوى بعنوان «ابن تيمية جهاديا» عام 1958! اختفى «الشاب الجهادي» بعدها، ولكن ظل تشويه ابن تيمية كما تم تشويه كثير من السلف والخلف باعتمادهم أصلا وسندا لهذه الأفكار والممارسات!

* تحول التشويه لابن تيمية واضحا مع رسالة «الفريضة الغائبة» محمد عبد السلام فرج، التي مثلت دستورا، وكذلك فتوى تنظيم الجهاد المصري لقتل الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، وهي في حقيقتها لم تكن غير هامش استطرادي مغالط، على فتوى التتار أو فتوى أهل ماردين لابن تيمية، لم يسأل المهندس فرج نفسه وهو يعتمدها للقتل، عن موضعها، كما لم يكلف نفسه تحقيق نصها الذي ثبت تصحيفه والغلط فيها، منذ نشرها الأول لفرج الله الكردي عام 1908، كما لم يراجع هل حارب صاحب الفتوى أهل ماردين أم لا وفي مواضع كثيرة يثني عليهم، كما لم يعتمد وصفه ونحته مفهوم الدار المركبة؟ كما لم يسأل كم مرة واجه التتار حربيا؟ أو غيرها من الأسئلة التي توجبها مسؤولية الفتوى ذاتها.
أبو الأشبال يصفهم بالخوارج ويعتبرونه مرجعية:
يذكر أيمن الظواهري في رسالته «التبرئة» الشيخ الراحل أبو الأشبال أحمد محمد شاكر كأحد مرجعيات السلفية الجهادية، استنادا لبعض تفسيراته العامة، ولفتواه الرد على استهداف الإنجليز للمدنيين المصريين في القناة، وأنه يجوز للمصريين ذلك في هذه الحالة، ولكن الظواهري يتجاهل مجمل خطاب الشيخ شاكر وفي مقدمتها تحريمه الاغتيال السياسي على أساس ديني، ورفضه اغتيال الإخوان المسلمين النقراشي باشا، في مقالة مشهورة بعنوان «الإيمان قيد الفتك» نشرتها جريدة «الأساس» في الأول من فبراير (شباط) سنة 1949، يصف فيها قاتلي النقراشي بالخوارج، ويقول: «لعل الله يهدي بعض هؤلاء الخوارج المجرمين؛ فيرجعوا إلى دينهم قبل أن لا يكون سبيل إلى الرجوع. وما ندري من ذا بعد النقراشي في قائمة هؤلاء الناس» لم يعلم الشيخ أن القائمة طويلة، وليس آخرها الشهيد «الكساسبة» الذي أحرقته «داعش» حيا في 3 فبراير الحالي.
لكن أمام التشويه والتزوير الكبير الذي ارتكبته «داعش» في تسجيلها المصور لإعلان قتلها وإعدامها الشهيد الكساسبة، نحن أمام حالة تزوير صريح على ابن تيمية (توفي سنة 728 هجرية)، وقطع لا يجوز علميا وأصوليا عن النص الأصلي (أصل الاقتباس) أو مجمل خطاب ابن تيمية.
إن ما نشرته «داعش» فقرة مختزلة من نص طويل مروي عن ابن تيمية، في كتاب «الفروع» لأحد تلامذته وهو القاضي شمس الدين محمد بن مفلح (توفي 763 هجرية) محاولة منها لشرعنة إعدامها الشهيد الطيار معاذ الكساسبة حرقا وهو حي، في 3 فبراير الحالي، رغم أن النص الأصلي تخالف مقدماته ومؤخراته ما اقتبسته «داعش»، وكان سردا لابن تيمية رحمه الله، وليس حكمه في مسألة قتل الأسير المحارب الكافر والتمثيل به، والكساسبة أسير مسلم، بوصف المدونات الفقهية بالأسير الحربي أو حتى المرتد، حسب منظومة «داعش» الفوضوية، وأحكامه ليست هذا الذي قالت به «داعش»!

* بين الاقتباس والنص الأصلي:
الفقرة المقتبسة التي أوردتها خوارج «داعش»، كما يسميهم شيوخهم في «القاعدة» الآن قبل غيرهم، في شريط إحراق الشهيد الكساسبة كانت كما يلي: «فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الإِيمَانِ, أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ, فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ».
نص مقطوع عن أصل يخالفه، وسرد لابن تيمية ينقله الراوي ابن مفلح لا يحمل رأيه، حيث كان كلام ابن تيمية رحمه الله عن الحرب، أردفه بحديث عما كان في أحد، خاصة وإذا كان الكفار يقومون بالتمثيل فيكون قصاص المسلمين استيفاء وأخذا بالثأر، كما كان في أحد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك في أحد، ومن هنا أردف ابن تيمية بقوله: «والصبر أفضل»..
يتبين التدليس حيث لم يذكر الداعشيون الراوي من باب الإيهام بالثبوت عن ابن تيمية، خاصة وأن النص ليس موجودا في مجموع الفتاوى أو غيرها، وموضعه في كتاب ابن مفلح «الفروع» بعد أن تجاهلوا عنوان الفصل وما يرجحه ابن مفلح نفسه من عدم جواز قتل الأسير، ونور النص كاملا حتى يتبين اللبس والتدليس، يقول ابن مفلح في «الفروع»:
«قَالَ شَيْخُنَا (يقصد ابن تيمية): الْمُثْلَةُ حَقٌّ لَهُمْ, فَلَهُمْ فِعْلُهَا لِلاسْتِيفَاءِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ، وَلَهُمْ تَرْكُهَا وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ, وهذا حيث لا يكون في التمثيل زِيَادَةٌ فِي الْجِهَادِ, وَلا يَكُونُ نَكَالا لَهُمْ عَنْ نَظِيرِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي التَّمْثِيلِ الشَّائِعِ دُعَاءٌ لَهُمْ إلَى الإِيمَانِ، أَوْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ، وَلَمْ تَكُنْ الْقِصَّةُ فِي أُحُدٍ كَذَلِكَ. فَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ أَفْضَلَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُغَلَّبُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَالصَّبْرُ».
الصبر أفضل، هذا رأي ابن تيمية في قتل الأسير الكافر وفي المثلة به، ولابن تيمية رأي آخر في الأسير المتأول والمسلم الحربي فله رأي آخر موجود في مجموع الفتاوى، حيث يفضل عدم قتله، ما نقله ابن مفلح، كما أن موضع الفتوى أو سياق كلام ابن تيمية أو روايته كما يتضح ما كان في معركة أحد من تمثيل الكفار حينئذ بجسد حمزة بن عبد المطلب عم النبي رضي الله عنه، ورغم رغبة وغضب النبي الثأر لعمه بعدها، إلا أنه لم يفعل صلى الله عليه وسلم، وعرف عنه إكرام أسرى طيء وعرف عنه العفو العام عند فتح مكة، كما يتجاهل الداعشيون وهو الأهم هنا ختم ابن تيمية رأيه بالقول: «فلهذا كان الصبر أفضل، وإذا كان المغلب حق الله تعالى فالصبر» هذا النفور من المثلة لم ينتبه له هؤلاء، وشردوا ما رأوه يناسبهم عن رأي صاحبه الفقيه الحنبلي وشيخ الإسلام رحمه الله.

كذلك تجاهلت «داعش» ما سبق هذا النص بسطر واحد، وفي نفس الصفحة، من رأي وموقف إمام المذهب أحمد بن حنبل رحمه الله (توفي 241 هجرية) من أنه لا يجوز تعذيب الأسير، وأنه إن مثل به أحد المسلمين كان جزاؤه التمثيل مثله! يقول ابن مفلح: «قَالَ أَحْمَدُ: وَلا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبُوهُ. وَعَنْهُ إنْ مَثَّلُوا مُثِّلَ بِهِمْ». هذا رأي إمام المذهب قبل رأي ابن تيمية بسطر واحد يتجاهله الداعشيون، فقد قال في حكم من يمثل بالأسير أن يمثل به!..
وهذا هو الأصل في أحكام الأسرى في الإسلام، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم ما قام خطيبا إلا نهى عن المثلة، رواه أحمد والبزار بنحوه، والطبراني في الكبير، كما يتجاهلون نصا أورده ابن كثير في البداية والنهاية: «قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عمرو بن عطاء أخو بني عامر ابن لؤي أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنية سهيل بن عمر ويدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا».
ابن تيمية كره المثلة وإن كانت قصاصا:
إن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ثبت عنه أنه لم يكفر أحدا من أهل القبلة، ووجد في عصر أزمة الحروب الصليبية والمغولية والطائفية واجتماعها، لم يتناول المثلة والتمثيل لأسير أو غيره إلا في باب القصاص، حيث يقول: «كَانَ الْقِصَاصُ مَشْرُوعًا إذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جَنَفٍ كَالاقتصاصِ فِي الْجُرُوحِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ. وَفِي الأَعْضَاءِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى مَفْصِلٍ فَإِذَا كَانَ الْجَنَفُ وَاقِعًا فِي الاسْتِيفَاءِ عُدِلَ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الدِّيَةُ؛ لأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ مِنْ إتْلافِ زِيَادَةٍ فِي الْمُقْتَصِّ مِنْهُ». فلا يرى ابن تيمية مجاوزة العدل في القصاص، ولا يرى التحريق والتغريق والتوسيط في مسائل القصاص لأنه أشد إيلاما ويفتقد العدل، وليس كما يروي عنه الداعشيون, وجمهورهم! الذين اجتزأوا هذه الفقرة أيضا ونشروها مبررين بها ذبحهم وحرقهم، عن النص الأصلي في الفتاوى، حيث يقول رحمه الله:
«وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ رَأَى مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لا قَوَدَ إلا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ قَالَ: لأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ السَّيْفِ وَفِي غَيْرِ الْعُنُقِ لا نَعْلَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةَ بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّحْرِيقُ وَالتَّغْرِيقُ وَالتَّوْسِيطُ وَنَحْوُ ذَلِكَ أَشَدَّ إيلامًا؛ لَكِنْ الَّذِينَ قَالُوا: يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ قَوْلُهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ؛ فَإِنَّهُ مَعَ تَحَرِّي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدْلِ وَمَا حَصَلَ مِنْ تَفَاوُتِ الأَلَمِ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ. وَأَمَّا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ وَسَطَهُ فَقُوبِلَ ذَلِكَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ بِالسَّيْفِ؛ أَوْ رَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَضُرِبَ بِالسَّيْفِ فَهُنَا قَدْ تَيَقَّنَّا عَدَمَ الْمُعَادَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ. وَكُنَّا قَدْ فَعَلْنَا مَا تَيَقَّنَّا انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ وَأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ وُجُودُهَا بِخِلافِ الأَوَّلِ فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ تَقَعُ؛ إذْ التَّفَاوُتُ فِيهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ. وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبَةِ وَاللَّطْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَدَلَ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى التَّعْزِيرِ».
كما أن لجوءهم لروايات ضعيفة بل منكرة في التمثيل بعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضى الله عنه، أو قتل خالد مالكا بن نويرة في حروب الردة، فهو ما لا يصح عند ابن تيمية، وتعليقا على ما روي عن خالد: قال ولم يقم به أبو بكر! أي يقرر أنه كان خطأ، كما رأى عمر، لا يجوز الاستنان به!

* ابن تيمية: يرفض حرق النمل:
وفق الحديث النبوي الذي رواه أبو هريرةَ رضي الله عنه قالَ: بَعَثَنَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم في سريةٍ فقالَ: «إنْ ظفرتُم بفلانٍ وفلانٍ فأحرقوهما بالنار» حتَّى إذا كانَ الغدُ بعثَ إلينَا فقالَ: «إني قد كنتُ أمرتُكُم بتحريقِ هذينِ الرجلينِ ثُم رأيتُ أنهُ لا ينبغي لأحدٍ أنْ يعذّبَ بالنارِ إلاَّ اللَّهُ، فإنْ ظفرتُم بهما فاقتلوهُما» رواه ابن أبي شيبة (28877) والدارمي (2461).
كذلك سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عمن تسلط عليه ثلاثة: الزوجة، والقط، والنمل؛ الزوجة ترضع من ليس ولدها، وتنكد عليه حاله وفراشه بذلك، والقط يأكل الفراريج، والنمل يدب في الطعام: فهل لهم حرق بيوتهم بالنار أم لا؟ وهل يجوز لهم قتل القط؟ وهل لهم منع الزوجة من إرضاعها.
فأجاب: «ليس للزوجة أن ترضع غير ولدها إلا بإذن الزوج. والقط إذا صال على ماله: فله دفعه عن الصول ولو بالقتل، وله أن يرميه بمكان بعيد؛ فإن لم يمكن دفع ضرره إلا بالقتل قتل. وأما النمل: فيدفع ضرره بغير التحريق. والله أعلم.أ.هـ».

* تحرير ابن تيمية من تزوير «داعش» وأخواتها:
شوهت «داعش» وأخواتها كثيرا من فتاوى الإمام الحنبلي والفقيه الموسوعي أحمد بن تيمية، الذي لم يضع كتابا واحدا في الأحكام السلطانية، وفي عصر الدولة المملوكية، وفصلوه عن مجمل خطابه وفتاواه، واقتطفوا من أقواله وأجزائه أشلاء اعتبروها سندا لممارساتهم التي تفتقد الأصالة في أغلب الأحيان.
من يعتمدون فتوى التتار وقتلوا بها السادات ثم عادوا عنها ووصفوه بالشهادة، ولو رجعوا للتاريخ لعلموا أنه رحمه الله لم يكفر التتري قازان، وطلب مقابلته مرتين، قابله في إحداهما ومنعه في الأخرى وزيره الهمداني كما يروي ابن كثير، ولم يدخل في حرب مع التتار على شرعة الياسا، كما قبل حكم المماليك وتحرك في إطار مشروعية الناصر بن قلاوون بعض الوقت ضد بعض البدع في تصوره، ورفض أن ينتقم ابن قلاوون ممن امتحنوه ودخل بسببهم السجن أكثر من مرة، كالقاضي ابن مخلوف ونصر المنبجي وعطاء الله السكندري وغيرهم، من شيوخ الصوفية، كما لم يكفر عوام الطوائف وأكد اعتقادا أنه لا يقول بتكفير أحد من أهل القبلة، كما أكد أنه لا يقول بتكفير معين! لم يكن داعشيا يا من كفرتم المعينين كالكساسبة وكفرتم شيوخكم من شيوخ السلفية الجهادية و«القاعدة» الذين توالت كتاباتهم بوصفكم بالخوارج! كما كفرتم رفقاءكم السابقين كـ«النصرة» التي صرتم تصفونها بـ«الكسرة»، وتصفون «القاعدة» بأبناء الرافضة!
لكن كان ابن تيمية أكبر ضحاياكم، وقد كان الشيخ يحذر من أمثالكم حين كان يحذر من اختزال خطابه وقطعه عن نصوصه الكلية وعن سياقاته حين قال في منهاج السنة: «لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم».
كما أنه لم ير يا أهل الحاكمية والإمامة والخلافة مسألة الحكم والحاكمية أخص خصائص عقائد الألوهية كما تقولون ويقول شيوخكم، بل هذا التعبير محدث مبتدع، ولم يستخدمه أحد محققيكم كعبد القادر بن عبد العزيز في مرحلته الأولى لعلمه بذلك، وأقر المودودي الندوي في رفضه له في سجال مشهور، ابن تيمية لم يكن يرى الحكم والإمامة قداسة تتيح الفتن والقتل والافتراق، بل رآها اجتهادية تقديرية، فيقول عن اعتبار الخلافة والإمامة أعلى مسائل الدين: «إن قول القائل إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين كذب بإجماع المسلمين سنيهم وشيعيهم»..
هذا تحقيق وتدقيق مختصر، من باحث قد لا ينتمي لابن تيمية كمنظومة، بل ينتمي للفكر المدني والليبرالي تحديدا، ولكن ما كتبه هو إنصاف للحق وللحقيقة والتحقيق، كشفا لأزمة هذه الخطابات الداعشية الوحشية المنحرفة بالحاكمية نحو الخارجية عن تراث السنة ككل، وعن الوسطية انتصارا لتاريخ بريء منهم كما هو الواقع بريء من فظاعاتهم، نهدي ثوابها لروح الكساسبة الشهيد بإذن الله تعالى.
* كاتب مصري. صدر له أخيرا كتاب «من بوعزيزي إلى داعش.. إخفاقات الوعي والربيع العربي».

* هوامش بحثية:
ابن مفلح: «تصحيح الفروع» لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي، طبعة أولى مؤسسة الرسالة سنة 2003- 1424 هجرية، الجزء العاشر/ صفحة 265.
- ابن تيمية: «مجموع الفتاوى»، 18/167.
- ابن تيمية: «الفتاوى» 32/273.
- ابن تيمية: «الفتاوى»، 19/238، وأيضا منهاج السنة النبوية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود، سنة 1985، المجلد الخامس، ص 83.
- ابن تيمية: «منهاج السنة النبوية»، تحقيق محمد رشاد سالم، مطبعة جامعة الإمام محمد بن سعود سنة 1986، 1/75.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.