للقصة القصيرة في الوطن العربي تاريخ متعرج منذ أن عرفنا هذا الفن بتعريفه الحديث بداية القرن العشرين، مع قصص محمود تيمور في مصر، وفؤاد الشايب وبديع حقي، في سوريا، إلى أن عرفت القصة القصيرة نضجها لاحقا مع يوسف إدريس، الذي يمكن اعتباره أول من كتب قصة قصيرة حقيقية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بمعنى امتلاكها كل الشروط الفنية التي ينبغي أن تتوفر في هذا النوع الأدبي الصعب حقا، التي افتقدتها إلى هذا الحد أو ذاك النتاجات القصصية السابقة. وكان معظم الروائيين الكبار، ومنهم نجيب محفوظ، قد مارسوا القصة القصيرة أيضاً، بغض النظر عن مدى تحقق الشروط الفنية فيها. ثم تحولت القصة القصيرة إلى تيار كاسح بالترافق مع ثورة الشعر الحديث، حتى كادت تتقاسم معه الساحة الأدبية ربما حتى نهاية السبعينات. فبرز كتاب متميزون حقا، حققوا حضورا في كل الوطن العربي ومنهم، على سبيل المثال، زكريا تامر وإبراهيم صموئيل في سوريا، ومحمد خضير وفهد الأسدي في العراق، ومحمد زفاف في المغرب، وخليل السياحري ومحمود شقير ومحمود الريماوي في فلسطين، وبشري الفاضل في السودان، الذي فاز قبل أيام بجائزة «البوكر الأفريقية»، المسماة أيضاً جائزة «كين» وهي مخصصة للقصة القصيرة. وهذا إنجاز مهم للقصة القصيرة العربية، ومع ذلك لم يحتف به أحد. والملاحظ، أن مجموعة الفاضل الفائزة المعنونة «الفتاة التي طارت عصافيرها» مكتوبة عام 1979، إلا أنها لم تترجم للإنجليزية إلا قبل سنوات قليلة.
في تلك الفترة، قلما كنت تعثر على مبدع لا يكتب القصة القصيرة، كما هو الحال الآن مع الرواية. وشيئا فشيئا خفت الحمى، وفعل الزمن فعلته، وغربل ما غربل، فلم يعد أحد يمارس كتابتها إلا أسماء محدودة جدا في كل الوطن العربي، وكأن هذا الفن أصبح فجأة باعثا على الخجل، أو ذا شأن ضئيل!
وبغض النظر عن الأسباب وراء ذلك، فهذا يحتاج إلى مجال آخر، مرتبط بمجمل التغيرات الاجتماعية والثقافية، فهناك اعتراف عربي وعالمي بأن هذا الفن الجليل، المفروض أنه يتوافق مع روح العصر السريعة الإيقاع، المتوترة، المكثفة، قصيرة النفس، آخذ بالخفوت، إن لم يكن يعني حشرجات الموت الأخيرة، ليس في الوطن العربي فقط بل في أرجاء المعمورة الأخرى.
للأسف، لم يعد هناك إدغار آلان بو وموباسان وأنطون تشيخوف وكاترين مانسفيلد ويوسف إدريس وزكريا تامر ومحمد خضير ووليم تريفور.
كان من المؤمل أن يساعد فوز الكندية أليس مونرو بجائزة نوبل للآداب عام 2013 عن قصصها القصيرة، على خروج القصة من غرفة الإنعاش، ولكن هذا للأسف لم يحصل.
مرة أخرى، لماذا انحسرت القصة القصيرة أو تكاد عن عالمنا؟ لماذا لم نعد نقرأ مجموعات قصصية؟ لأننا، كما يقول الحداثيون، نعيش «عصر التشظي»، الذي لا يمكن أن تستوعبه سوى الرواية، ويضيق به جسد القصة النحيف؟ أم، مرة أخرى، هو زمن الرواية، ولكل زمن فنه... أو موضته؟
فن جميل في غرفة الإنعاش
فن جميل في غرفة الإنعاش
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة